لم يفاجئنا التقرير الذى صدر مؤكدا على براءة الشرطة من دم قتيل الإسكندرية الشاب خالد سعيد، واتهامه بأنه هو الذى قتل نفسه حين ابتلع لفافة من المخدرات تسببت فى اختناقه. وكنت قد ذكرت فى تعليق نشر قبل ثلاثة أيام من إعلان نتيجة تقرير الطبيب الشرعى، أن «الداخلية» لن تسمح بأن تختلف نتيجة التحقيق أو التشريح الجديد مخالفة عن البيان الذى أصدرته، وإلا اعتبر ذلك إدانة علنية لها.. كما لن يصدقها أحد إذا جاءت نتيجة التحقيق مطابقة لبيانها ومؤيدة له. ومن ثم سيظل الملف مفتوحا، وتظل الفضيحة مستمرة فى الداخل والخارج (21/6/2010). حدث ما كان متوقعا، إذ جاءت نتيجة التقرير الثانى للطب الشرعى مطابقة من الناحية الموضوعية للبيان الذى أذاعته، حينما بدأ المجتمع يعبر عن غضبه من خلال المظاهرات، وبيانات الإدانة التى صدرت فى القاهرةوالإسكندرية بوجه أخص. إذ تحت ضغط تلك التحركات وبعد النقد الأمريكى العلنى لما حدث. تم استخراج الجثة وأعيد تشريحها مرة ثانية بواسطة لجنة ثلاثية من الطب الشرعى، وخلصت اللجنة فى تقريرها الذى أعلن يوم الخميس 25/6 إلى نفس النتيجة التى سبق أن أعلنها بيان وزارة الداخلية، الذى اتهم أصحاب الرأى الآخر الذين حملوا رجالها المسئولية عن قتل الشاب خالد بأنهم تعمدوا التغليط، ولجأوا إلى الكذب والتضليل. لم يغير صدور بيان البراءة الثانى شيئا من اقتناع الرأى العام بأن شرطة الداخلية هى المسئولة عن جريمة القتل، والوقفة الاحتجاجية التى أقيمت بالإسكندرية يوم أمس الجمعة تؤيد ذلك الانطباع، الأمر الذى يعنى أن المسئولية عن الجريمة ستظل معلقة برقبة وزارة الداخلية إلى يوم الدين، أما لماذا لم يصدق الناس البيان فلذلك سببان رئيسيان هما: إن سمعة وزارة الداخلية فى التعذيب بوجه أخص مجرحة تماما. وإذا كان الشاب خالد سعيد قتل فى الشارع، وشاهده آخر ورجلا الشرطة يفتكان به، فإن آخرين سبقوه إلى ذات المصير، ولكن أحدا لم يرهم، بعدما تم تعذيبهم فى مراكز الشرطة والسجون العلنية والسرية. وقد نشر الدكتور إبراهيم السايح مقالا فى «الدستور» (يوم 14/6) تحدث فيه عن بعض حالات القتل المماثلة التى مازالت معلقة فى رقبة وزارة الداخلية، كما أن لدى مركز النديم لحقوق الإنسان أكثر من دراسة تضمنت قائمة بأسماء الذين قتلوا بسبب التعذيب، وأسماء الضباط الذين اتهموا بالمسئولية عن تلك الحالات (فى الفترة بين عامى 2003 و2006 قتل 51 شخصا فى السجون). إن لجنة الطب الشرعى التى أعدت التقرير تضم ثلاثة من موظفى الحكومة، الذين لا أستطيع أن أشكك فى علمهم ولا نزاهتهم، إلا أن كونهم موظفين لدى الحكومة يعطى انطباعا مباشرا بأنهم ليسوا محايدين (لهم تاريخ فى عدم الحياد). إذ فضلا عن النفوذ الهائل الذى تملكه وزارة الداخلية فى جميع مؤسسات المجتمع، فإننا نعلم أنه تمت إعادة هيكلة النظام الوظيفى فى مصر، بحيث يصبح ترقى المؤهلين منهم للوظائف القيادية العليا مرهونا بموافقة أجهزة الدولة، وعلى رأسها وزارة الداخلية. فالموظف لا يرشح للوظائف العليا لا لعلمه أو خلقه أو خبرته، وإنما بالدرجة الأولى استنادا إلى ولائه، وبعد ذلك تأتى الاعتبارات الأخرى. وهو ما يعنى أن مصير الموظف ومستقبله فى سلك الحكومة مرهون بمقدار الرضا عنه، وحين يتعلق الأمر بوزارة الداخلية فإن سخطها ينهى مستقبل الشخص الوظيفى، الذى لن يجد ما يحميه أو يدافع عنه فى هذه الحالة. إننا نتمنى أن تبرأ ساحة الشرطة مما نسب إليها فى جريمة قتل الشاب خالد سعيد، إلا أننا لن نستطيع أن نطمئن إلى تلك البراءة إلا إذا أعدت لجنة مستقلة من نقابة الأطباء مثلا تقرير تشريح جثته. لكن ذلك سيظل أملا بعيد المنال، فى ظل الجبروت الذى تمارسه وزارة الداخلية الذى حولها قانون الطوارئ إلى أهم مركز للقوة فى البلد. وبعدما خصخصت الحكومة التجارة، فى حين أصرت على تأميم كل مؤسسات المجتمع، لم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت السلطة، وإذا صح ذلك فهو يعنى أن المشكلة أكبر من وزارة الداخلية. وإننا بإزاء وضع يحتاج إلى مراجعة جوهرية لأصول الوضع السياسى للبلد وليس لما تفرع عنه. من ثم فما لم نتفق على تشخيص صحيح للمشكلة فلن نستطيع أن نتوصل إلى حل لها.