ملف ديون الفلاحين عاد إلى الأضواء فى الأسابيع الأخيرة بعد إعلان متكرر من جانب الحكومة عن إسقاط الدين عن البعض، بشروط تخص حجم الدين، ومساحة الأرض المملوكة للمدين. «لما تلاقى ماسح أحذية فى شوارع القاهرة، غالبا يكون متعثرا أو ابن متعثر. ولما تلاقى بياع فول فى برج العرب أو الساحل الشمالى، وتسأله، حيقول لك: مش لاجى آكل فى جبلى «قبلى»، بسبب دين البنك». هكذا يلخص فلاح قرية صفط اللبن بالمنيا عماد عبيد، ما آل إليه حال آلاف المزارعين مع بنك التسليف أو ما أصبح يسمى ببنك التنمية والائتمان الزراعى. «والله ما أنا عارف الدين وصل كام.. تقريبا 200 ألف. فى البداية أخذت قرض 6 آلاف جنيه علشان اشترى بلاستيك للزرع. كان الكلام ده مع الجمعية التعاونية وبعدين حولونا على البنك». هكذا بدأت قصة الحاج إسماعيل السيسى مع البنك والديون. «سددت وأخذت قرضا ثانيا. خسرت الزراعة وجاء ميعاد السداد ولم أسدد.. زادت الفائدة، شيكات على بياض. وقرض جديد يسد القديم. اتباعت الأرض والدين موجود». من الإسماعيلية إلى قنا تتكرر قصة الحاج إسماعيل مع الحاج عبدالله وإن اختلفت بعض التفاصيل. «تعثرت فى سداد الأقساط. قالوا لى فى البنك نجدول القرض. فائدة عليها فائدة جديدة. وعمليات قلب وتدوير للدين. وأنا دلوقتى مهدد بالسجن، عامل زى المطاريد. بيستغلوا جهل الواحد وعدم خبرته». عمليا يستدين الفلاح من بنك التنمية بطريقتين: قرض زراعى أى للمشروعات الزراعية بفائدة سنوية 11% أو مايسمى قرضا استثماريا بفائدة من 17 إلى 19 % لزواج الأبناء أو لشراء ثلاجة أو تليفزيون. الشكوى واحدة. الكل يتحدث عن «فساد أو استغلال جهل الفلاحين». استغاثات لمسئولين وخطابات لرئاسة الجمهورية. والعنوان لا يتغير: ديون المزارعين لبنك التنمية والائتمان الزراعى. والمبادرات، كما يحلو للحكومة تسميتها، تتشابه. قد تتغير فقط الأوراق التى تكتب عليها أو قليل من أرقامها. هذه المرة جاءت المبادرة من الرئيس مبارك، وفى أقل من أسبوع أحيل الملف للجنة السياسات بالحزب الوطنى لمناقشة التفاصيل. القرار ينص على إعفاء صغار المدينين من المزارعين من نصف إجمالى مديونياتهم لدى بنك الائتمان الزراعى على أن تتم جدولة النصف الباقى بفائدة 5% على عشر سنوات. والمقصود بالصغار هنا الذين لا يزيد أصل الدين فى القرض الممنوح لهم على 25 ألف جنيه ولا يملكون أكثر من 5 أفدنة. 150 ألف متعثر يستفيدون من التسهيلات الجديدة وحسب تصريحات على شاكر رئيس مجلس إدارة البنك فإن الموازنة العامة للدولة ستتحمل 500 مليون جنيه وبنك التنمية 350 مليون آخرين أى 850 مليون فى حين أن إجمالى الديون على المتعثرين يصل إلى حوالى 2.1 مليار. فى الأصل، كما يقول بهجت إبراهيم، نائب الحزب الوطنى، «فلاحون»، المبادرة أعلنها جمال مبارك نجل الرئيس وأمين لجنة السياسات بالحزب الحاكم خلال زيارة له فى محافظة الشرقية قبل ثلاث سنوات. تطورت المبادرة فيما بعد لتصبح «مبادرة وزارية»، تخصم الفائدة والغرامات و15 أو 20 أو25% من أصل الدين حسب الحيازة الزراعية. «استفاد منها 132 ألف فلاح. سبق هذه المبادرة أيضا مبادرتان لمجلس الوزراء، الأولى عندما كان عاطف صدقى رئيسا للوزراء، واستفاد من الاثنتين 159 ألف فلاح، ليصبح مجموع المستفيدين من المبادرات الثلاث حوالى ربع مليون مزارع». تاريخ صلاحية المبادرة الأخيرة كان على وشك الانتهاء، فقد حدد لها نهاية مارس 2008، لذا كان لابد من «مبادرة جديدة». «وعلى الراغب فى توفيق أوضاعه الذهاب إلى بنك القرية قبل نهاية شهر يونيو 2009، فهى فرصة لن تتكرر»، تقول الحكومة. فى سوهاج بلد النائب «الوطنى»، «حوالى 50% بدأوا فى تسوية مديونيتهم. فى الدلتا فيه ناس لم تسمع بالموضوع. علشان كده فى جولة لأمانة الفلاحين فى المحافظات لتنشيط العملية». هل الأمر يحتاج فقط إلى مجرد جولة دعائية؟ أم أن المبادرة الجديدة القديمة بها من الثغرات والعثرات ما يرشح الأزمة للاستمرار لسنوات أخرى؟. الدراسات تشير إلى فقدان الثقة بين الحكومة والفلاح مركز أولاد الأرض يتابع منذ سنوات هذا الملف وقد جمع عددا كبيرا من شهادات فلاحين ضاقت بهم السبل مع بنك التنمية وساند البعض منهم لمقاضاته فى المحاكم. ويرى كرم صابر من مركز الأرض «أن الفلاحين يعتقدون أن «فيه نصب جديد. المتعثر اللى هايروح البنك عارف إنه هيمضى تانى، وتتراكم عليه ديون تانى. هذه الخطوة هى طريقة جديدة للإيقاع بالفلاحين لأنها تتحدث عن اجمالى المديونية وليس أصل الدين. أى انى باحاسب الفلاح على 100 ألف بدلا من 10 آلاف مثلا وأقول له هاخفض لك النصف. المفروض أحاسبه على القرض وبس». كلام قد يبدو به القليل من المنطق من وجه النظر الأخرى. البنك الزراعى فى النهاية بنك وأمواله أموال مودعين والفلاح ارتضى أن يقترض بفائدة. كيف يريد الفلاح أن يقترض بدون ضمانات وبدون فوائد وبدون غرامة عند عدم السداد؟ يؤكد صابر أن رأس مال البنك هو فى الأصل ملك للجمعيات الزراعية والتعاونيات حتى عام 1976. ثم من المستحيل أن تصل الغرامات والفوائد إلى 10 أضعاف المبلغ فى 10 سنوات. «هذا لا يحدث فى أى بنك تجارى فى العالم. وهذا اسمه بنك تنمية بمعنى أن هدفه تحسين أوضاع الريف والفلاحين، ودعم الزراعة لتأمين الغذاء. لكنه تنازل عن أهدافه وتجاوز حتى الهدف التجارى. كفاية تجارة فى صغار المزارعين!». «الطريد وأباليس بنك التنمية» هو اسم كتاب لإبراهيم عبدالجواد. ابراهيم مزارع كان له مصنع منتجات ألبان ومزرعة حيوانات. اقترض 79 ألف جنيه من البنك وطالبه البنك بمبلغ 840 ألفا. حكم عليه بالسجن ثم نجح فى اثبات حقة كما يقول. «طلعت مسدد الدين والبنك مدين لى كمان بحوالى 9 آلاف جنيه». عبدالجواد التقى الحاج إسماعيل ومع مركز الأرض لجأ للقضاء. وصدر تقرير خبير المحكمة يقول: البنك عجز عن تقديم أوراق أو مستندات أو أصول صرف تثبت أن إسماعيل مدين للبنك بقيمة 203 آلاف جنيه. كما أنه تمت المبالغة فى احتساب الفائدة. وتحددت الجلسة يوم 26 أبريل. يؤكد كرم صابر ان كل الحالات التى درسناها وجدنا الفلاحين دائنين للبنك حتى بحساب الفائدة التجارية بمعنى 12% +2% رسوم إدارية. والحل؟ «الموضوع محتاج قرار سياسى بإسقاط إجمالى ديون الفلاحين» عماد عبيد فلاح قرية صفط اللبن بالمنيا، فلاح غير متعثر وعضو فى اتحاد الفلاحين تحت التأسيس يعتقد انه يجب الإجابة أولا عن سؤال «من السبب فيما حدث؟ إيه الأسباب التى أدت إلى استدانة الفلاح وإفقاره؟ هل هى سياسة دولة لا تريد فلاحين؟ هم فاكرين أن إحنا ضد الحكومة، إحنا عايزين نحافظ على البلد. توجد أزمة اقتصادية وزراعة متدهورة. المفروض أشجع الفلاح لعدم ترك الأراضى الزراعية والزحف على المدينة. الفلاح لم يهرب بره البلد. المفروض نمد له أيدينا وألا تخلق حرامى؟ فى مصلحة مين ده؟!» هى المصلحة أصل الأزمة. ويعتقد كثيرون أن الحكومة ليست لديها نية حقيقية لجدولة الديون وإنما البنك هو الهدف. فالحكومة «ووفقا للبرنامج الانتخابى للرئيس» تريد توفيق أوضاع بنك التنمية والائتمان الزراعى وهيكلته من أجل تحويله إلى هيئة قابضة تخضع لإشراف البنك المركزى، وهى دراسة يقوم بها البنك الهولندى «رابوبانك». بمعنى أن يصبح كأى بنك تجارى مملوك للدولة. الأمر الذى يطرح تساؤلات أوسع عن احتمال تخلى البنك عن دوره فى دعم الفلاح. «هما بييجوا على الفلاح الغلبان، والكبار محميين. لكن ربنا عادل» يطلقها الحاج إسماعيل. «لا عايز طين ولا ديون».