فى ختام العام الثالث على تولّى الحكومة الحالية مهماتها، وبعد عامين على اندلاع حرب «السيوف الحديدية» التى بدأت عقب أحداث السابع من أكتوبر الصادمة، لا شك فى أن إسرائيل تقف اليوم عند مفترق طرق بالغ الخطورة؛ فالتحديات الخارجية والسياسية والأمنية التى تواجهها إسرائيل جرى عرضها بالتفصيل فى مقالٍ آخر فى هذه النشرة الإخبارية، لكن من الضرورى التوقف عند القضايا المركزية التى يتكون منها مفهوم المناعة الوطنية الإسرائيلية، مع التركيز على ردات الفعل المطلوبة من الدولة من أجل تفادى مزيد من التدهور فى الوضع القائم.
قضية المساواة فى تحمُّل العبء والتجنيد فى الجيش إن إحدى القضايا المركزية التى تشغل الحكومة والدولة فى الأعوام الأخيرة هى مسألة المساواة فى تحمُّل العبء والتجنيد فى الجيش الإسرائيلى. هنا، من الضرورى تسليط الضوء على الحلول المطلوبة لهذه القضية؛ فقانون التجنيد الجديد الذى تحاول الحكومة تمريره - من دون نجاح حتى الآن - ظاهريا، يتضمن تحديد أهداف تجنيد سنوية واضحة للحريديم، لكنه فى الواقع، يشرّع استمرار التهرب من الخدمة العسكرية، ويحدد أهدافاً غامضة، ولا يفرض عقوبات حقيقية على مَن يمتنع من التجنيد. والموقف الصحيح الذى يجب على الدولة تبنّيه يجب أن يشمل ما يلى: 1-تعديل صيغة القانون، بحيث تتضمن أهداف تجنيد واضحة تتوافق مع حاجات الجيش، إلى جانب تحديد عقوبات مُلزمة وآليات تنفيذها بحق المؤسسات والتنظيمات والأفراد الذين لا يلتزمون القانون. 2-تطبيق إصلاح جذرى فى منظومة التعليم، يشمل فرض مناهج إلزامية فى جميع المؤسسات التعليمية الحريدية، بما فى ذلك المواد الأساسية، كشرط للحصول على التمويل والدعم الحكومى. 3-ربط الاندماج فى سوق العمل والحصول على تراخيص الأعمال ورخص القيادة والمشاركة فى الانتخابات المحلية والعامة بالخدمة فى الجيش، أو بالخدمة الوطنية. 4-تكثيف حملات النشر والتوعية والتسويق لقصص النجاح فى تجنيد الحريديم للجيش، بما فى ذلك وحدات قتالية وبرامج تدريب خاصة أُنشئت لهذا الغرض، مع التشديد على عدم وجود خطر على المجندين من الناحية الدينية. 5-إضافة بند إلى قانون الانتخابات يمنع مَن لم يخدم فى الجيش، أو فى الخدمة الوطنية، ولم يحصل على إعفاء رسمى لأسباب مبررة، من الترشح لمناصب سياسية، أو إدارية رفيعة. 6-ومن المهم التأكيد أن الجيش الإسرائيلى قادر اليوم على تقديم مسارات تجنيد وتدريب وخدمة منفصلة ومخصصة للحريديم، بما يتيح لهم خدمة مفيدة من دون المساس بقيَمهم الدينية. الصراع بين الحكومة والجهاز القضائى هناك قضية إشكالية أُخرى لا تزال تؤرق الحكومة والمواطنين، وهى الصراع المستمر بين الحكومة والجهاز القضائى، وحملة نزع الشرعية المتواصلة التى يقودها وزراء الحكومة ضد قضاة المحكمة العليا والمستشارة القانونية للحكومة. ففى حين تحاول الحكومة وأنصارها الدفع قدما نحو ما يُعتبر انقلابا دستوريا يقلّص الطابع الديمقراطى لإسرائيل بشكل كبير، ويمنح الحكومة صلاحيات غير متوازنة ربما تمسّ بحقوق المواطنين، فإن أكثر من نصف المواطنين الإسرائيليين- وفقا لاستطلاعات رأى عديدة- يعارضون هذه الخطوات ويخشون على مستقبل الدولة. وعلى الرغم من أن أسباب هذا الوضع والمسارات المتوقعة، فى حال غياب الحلول، جرى عرضها فى مقالات سابقة، فإنه من الضرورى هنا التطرق إلى الاستجابات الممكنة والحلول الموصى بها: 1-على الحكومة إيقاف جميع الخطوات التشريعية الرامية إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا، ووقف الصدام مع المستشارة القانونية للحكومة التى تمثل روح القانون ونصه. 2-العمل على تنفيذ إصلاح حقيقى فى منظومتَى القضاء وإنفاذ القانون، يشمل: زيادة ملحوظة فى عدد القضاة، وتحسين مستوى مهنيتهم فى مجالات تخصصهم، وتوسيع القدرة الاستيعابية لمصلحة السجون، وزيادة عدد المحققين والمدّعين فى الشرطة والنيابة العامة، بما يتيح مكافحة الجريمة بفعالية وتشديد العقوبات على المجرمين. 3-تشكيل لجنة تحقيق رسمية للتحقيق فى أحداث السابع من أكتوبر، تعمل وفق القانون القائم، ويعيّن رئيس المحكمة العليا أعضاءها، منعا لأى شكوك فى تحيُّز محتمل فى نتائجها. 4-وقف المساعى لتقسيم منصب المستشار القانونى للحكومة، أو إقالة المستشارة الحالية، والعمل وفق آرائها القانونية التى تعكس روح القانون وموقفه. الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وهجرة العقول فيما يخص المجالين الاجتماعى والاقتصادى، تناولنا مرارا تحليل اتجاهات هجرة العقول وشركات الهايتك من إسرائيل، وتأثير هذه الظواهر فى مستقبل الدولة. من جهة، لا يزال الاقتصاد الإسرائيلى قويا نسبيا على الرغم من العجز الكبير وتكاليف الحرب المرتفعة، فضلاً عن المخاوف من زيادة كبيرة فى العبء الضريبى، ومن جهة أُخرى، تعانى الدولة جرّاء ازدياد هجرة العقول والشباب، ولا سيما فى قطاع التكنولوجيا. مؤخرا، نشرت دائرة الإحصاء المركزية أنه حتى سنة 2024، أمضى 54.778 من حمَلة الشهادات الأكاديمية فى الفترة 1990 - 2018 ثلاثة أعوام، أو أكثر، فى الخارج، وهُم، فى أغلبيتهم، من المناطق الأكثر ازدهارا فى إسرائيل. ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى كثيرا، وربما تصل إلى مئات الآلاف، وهو وضع خطِر للغاية فى المدى البعيد. كذلك يجب الإشارة إلى المقاطعة الأكاديمية الدولية المفروضة على إسرائيل فى العامَين الأخيرين، والتى تتصاعد حدّتها، وتشمل إقصاء باحثين وأكاديميين إسرائيليين عن مؤتمرات وأبحاث وبرامج تعاوُن ونشر علمى حول العالم. ولمواجهة ذلك، نوصى بما يلى: زيادة عدد وظائف الأطباء والممرضين ورفع أجورهم، لمواءمة الخدمات الصحية مع معايير دول ال OECD، ولتشجيع الشباب على العودة والعمل فى إسرائيل؛ زيادة عدد كليات الطب داخل إسرائيل للحفاظ على الطلاب المتميزين ومنع هجرتهم إلى الخارج؛ تشجيع الباحثين والعلماء على البقاء، أو العودة، من خلال منح وظائف بحثية وفرص عمل وحوافز مالية؛ تنفيذ خطة استراتيجية واسعة تشمل التواصل المباشر مع الإسرائيليين فى الخارج العاملين فى المجالات العلمية والبحثية المطلوبة، وتقديم تسهيلات وحوافز كبيرة لعودتهم؛ زيادة الاستثمار بشكل كبير فى مناطق الأطراف لتقليص الفجوات بينها وبين المركز، بما فى ذلك إنشاء مراكز هايتك فى الأطراف، على غرار فرع شركة إنفيديا المزمع إقامته فى شمال البلد؛ إعطاء أفضلية واضحة لمن خدموا فى الجيش، أو فى الخدمة الوطنية، على حساب مَن لم يخدموا، لإرسال رسالة واضحة للأجيال القادمة بأن الدولة تكافئ مَن يساهم فيها. لا شك فى أن جزءا كبيرا من توصيات هذا المقال يتطلب تغييرا فى أولويات الحكومة، وربما فى تركيبتها، والذى ربما يستدعى التوجه إلى انتخابات جديدة، لكن أى تغيير يجب أن يتم بأسرع وقت ممكن، لأن الدولة تمرّ بأزمة عميقة تتطلب استجابة فورية. معهد السياسات والاستراتيجية جامعة ريخمان، المنظّم لمؤتمر هرتسليا السنوى مؤسسة الدراسات الفلسطينية