هل ما زالت أمريكا متقدمة على الصين؟ ما مجالات المنافسة بينهما؟ ماذا يفعل باقى العالم؟ فى 21 أكتوبر 2017 كتبتُ فى هذا المكان مقالًا بعنوان «الحرب الباردة الجديدة»، تحدثنا فيه عن الصراع الصامت بين أمريكاوالصين فى مجال التكنولوجيا، خاصة الحاسبات فائقة السرعة. أتبعنا هذا المقال بآخر فى 16 ديسمبر من نفس العام بعنوان «أمريكاوالصين... العلم والتكنولوجيا»، تحدثنا فيه عن عوامل قوة الصين التى يمكن أن تهدد الهيمنة الأمريكية. لاحظ أن فى ذلك الوقت لم يكن الذكاء الاصطناعى بهذا الانتشار بين الناس كما هو الحال الآن، وبالتالى كان لزامًا علينا أن نعيد تقييم الموضوع بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعى محور حديث العامة والخاصة، ومن هنا نشرنا مقالًا فى 21 فبراير 2025 نقيم فيه كلتا الدولتين فى هذا المجال. الآن، وحيث إن العلوم والتكنولوجيا تسير بخطى متسارعة، أحببنا أن ننظر إلى الموضوع مرة أخرى نظرة كلية من حيث التقدم التكنولوجى، وأيضًا البحث العلمى، لأن البحث العلمى هو ما يغذى التكنولوجيا، والطريق من البحث العلمى إلى التكنولوجى ترسمه السياسة ويمهده الاقتصاد وتقيمه العلوم الإنسانية. السجال بين أمريكاوالصين له أوجه عدة سياسية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية، وفى مقالنا اليوم سنركز على العلوم والتكنولوجيا، ونترك السياسة والاقتصاد لأهلها. منذ انتهاء الحرب الباردة وأمريكا متربعة على عرش العالم فى مجالات عديدة، منها التكنولوجيا والبحث العلمى، لكن الصين لا تكتفى بمقعد المتفرج. • • • خطة طويلة الأمد وقلق أمريكى ليس من الصعب على من يتابع التقدم الصينى فى العلوم والتكنولوجيا فى العقود الأخيرة أن يلاحظ أن الصين تتقدم بخطى ثابتة ومدروسة نحو القمة، وهذا معناه أنها تسير وفق خطة طويلة الأمد، وهذا طبعًا أقلق أمريكا، لذلك نجد أنها تضيق الخناق حول الصين فيما يتعلق برقائق الكمبيوتر المتقدمة، خاصة المستخدمة فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى، وأيضًا تمنع أمريكا عن الصين الأجهزة المستخدمة فى تصميم تلك الرقائق المتقدمة. وقد بدأ تضييق الخناق الكامل منذ عام 2022، أى فى عهد الرئيس بايدن، مع بعض المنع الجزئى لبعض الرقائق المتقدمة منذ عهد الرئيس أوباما. لكن هذا المنع جاء بنتيجة عكسية على ما يبدو، لأن الصين لم تقف مكتوفة الأيدى، بل دفعها هذا المنع إلى الابتكار والعمل بسرية لمقاومة هذا المنع. ويمكننا أن ننظر إلى هذه الحرب الباردة من عدة أوجه، كل وجه منها هو حلبة صراع. • • • حلبات الصراع وموقف أمريكاوالصين من كل منها التكنولوجيا هى الوجه الذى نراه فى هيئة منتجات وخدمات، لكنها تأتى بعد التقدم العلمى، فالبحث العلمى يأتى أولًا ثم يتحول إلى تكنولوجيا. من هذا المنطلق يمكننا أن نلخص الصراع بين أمريكاوالصين فى ثلاثة أوجه: النشر العلمى، والتكنولوجيا، ومتطلبات التكنولوجيا. النشر العلمى يدل على النشاط البحثى، وبالتالى يُعد مؤشرًا مهمًا عن البحث العلمى فى الدول والمؤسسات، لكن يجب أن نأخذ فى الاعتبار شيئين: النشر العلمى ليس بعدد الأبحاث المنشورة فقط، فقد يكون النشر فى مجلات ومؤتمرات محلية ضعيفة، وأيضًا قد تكون مؤسسة أو دولة تقوم بأبحاث سرية لا تسمح بالنشر. ما حال الصينوأمريكا فى مجال النشر العلمى؟ هناك ورقة بحثية نُشرت فى مجلة (Research Policy) من دار النشر (Elsevier) فى أكتوبر من هذا العام بعنوان «صعود الصين كقوة علمية عالمية: مسار التعاون الدولى والمحلى فى البحوث ذات التأثير الكبير». العنوان يقول كل شىء، لكن نظرة على هذه الورقة تقول إن الصين أغلقت الفجوة بينها وبين أمريكا تمامًا فى مجال النشر العلمى فى المجلات والمؤتمرات ذات التأثير الكبير، أى ليس مجرد النشر، فهذا يشمل الأبحاث المنشورة وأيضًا براءات الاختراع. الورقة البحثية وجدت أن من العوامل التى ساعدت الصين على ذلك هو التعاون بين الباحثين المحليين والدوليين، وتركيز الصين على المجالات الحيوية: الهندسة الكهربائية والإلكترونيات، والفيزياء، وعلم المواد، والكيمياء. إذا نظرنا إلى هذه الأفرع سنجد أنها الأفرع اللازمة لبناء أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة، والتى تُستخدم فى مجالات الذكاء الاصطناعى ونظم المحاكاة والأمن السيبرانى، إلخ. فى مجلة (Science) بتاريخ 11 يوليو من هذا العام أيضًا تم نشر تقرير يقول إن الصين تصدرت العالم فى نشر الأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعى. النشر العلمى هو الخطوة الأولى، لكن دون تحويله إلى تكنولوجيا تصبح تلك الأبحاث حبيسة الأوراق العلمية. التكنولوجيا بين أمريكاوالصين تتمحور حول مجالات عدة: السيارات الكهربائية، وأجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة، وأجهزة الكمبيوتر الكمية (quantum computers)، والتى لم تصل بعد إلى العامة، وبرمجيات الذكاء الاصطناعى. تصميم أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة يستلزم تصميم وتصنيع رقائق الكمبيوتر (computer chips)، وأحب هنا أن أدعو القارئ الكريم لمراجعة مقال كاتب هذه السطور بعنوان «مشكلة رقائق» بتاريخ 24 سبتمبر 2022. الرقائق المتقدمة، خاصة تلك المستخدمة حاليًا فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى، تحتاج فى تصنيعها (وليس تصميمها) إلى جهاز متقدم للغاية تصنعه شركة واحدة فقط فى العالم فى هولندا اسمها (ASML)، ثمن الجهاز يفوق الربع مليار دولار، وهذه الشركة ممنوعة بأمر من أمريكا من بيعه للصين. لكن مؤخرًا بدأت تظهر إرهاصات أن الصين قاب قوسين أو أدنى من تصميم جهاز مشابه، معتمدة على أبحاث صينية سرية تُجرى منذ عدة سنوات، بالإضافة إلى الاستعانة بباحثين صينيين عملوا فى تلك الشركة الهولندية فى الماضى. طبعًا هناك الكثير من المعلومات التى ما زالت فى طى الكتمان، وبالتالى لا نعرف ما سيئول إليه الأمر فيما يتعلق بهذا الجهاز. الصين متقدمة على أمريكا فى فرع السيارات الكهربائية نتيجة تقدم الصين الكبير فى تصميم البطاريات. لكن فى المجمل، أصبحت الصين المنافس الأول لأمريكا فى التكنولوجيا عامة، لكن التكنولوجيا تحتاج فى تصميمها وتصنيعها إلى عوامل مساعدة. متطلبات التكنولوجيا هى العوامل الواجب توافرها حتى تكتمل صناعة تلك التكنولوجيا. وأنواع التكنولوجيا التى ذكرناها أعلاه تحتاج إلى بعض المعادن النادرة المستخدمة فى تصميم الإلكترونيات والبطاريات والرقائق، إلخ، ثم معالجة تلك المعادن حتى يمكن استخدامها. وقبل كل ذلك وبعده تحتاج التكنولوجيا فى عصرنا هذا إلى مصادر كبيرة للطاقة. فأين أمريكاوالصين من كل ذلك؟ بخصوص الحصول على المعادن النادرة، فالصين لديها مخزون هائل منها، فى حين أن أمريكا تستورد حوالى 70% من تلك المعادن. أما بخصوص معالجة تلك المعادن قبل استخدامها، فالصين تمتلك 90% من مصانع المعالجة فى العالم. وبخصوص الحصول على الطاقة، فأمريكا تعتمد أساسًا على الغاز الطبيعى بنسبة تقارب 40% من الطاقة التى تولدها، يليها الفحم ثم الطاقة النووية (عن طريق الانشطار النووى حاليًا). أما الصين فتعتمد أساسًا على الفحم، مما يجعل التلوث عندها أكثر من أمريكا، لكن الصين بدأت الاستثمار بجدية فى الطاقة النظيفة. لكن مع كل هذا التطور، ما زالت أمريكا متقدمة على الصين من وجهين: • أمريكا ما زالت تستقطب المواهب من مختلف أنحاء العالم، وتستطيع توظيفهم فى سياسة علمية محكمة، وإن كان هذا الاستقطاب قد بدأ يقل، لكنها ما زالت متقدمة. • أمريكا ما زالت تمتلك تكنولوجيا أكثر تقدمًا من الصين فى تصميم الحاسبات فائقة السرعة. ما زال السباق مستمرًا، وبالتأكيد تأثيره سيطولنا جميعًا، سواء بالسلب إذا لم نفعل شيئًا، أو بالإيجاب إذا أحسنا التعامل مع كلتا الدولتين. • • • العالم يتجه من أحادى القطب إلى متعدد الأقطاب، لكن ببطء، وحلبات الصراع هى العلم والتكنولوجيا، وبالتالى أصبحت مصادر الطاقة والمعادن النادرة والبيانات من أغلى الأشياء.