هذا بيت من الشعر العربى يلخص جانبًا كبيرًا ومهمًا من واقع عالمنا ومنطقتنا: لكلّ داءٍ دواءٌ يُسْتطَبّ بهِ إلاّ الحماقة أعْيتْ من يداويها ولكن ما الحماقة..؟ ربما تكون الحماقة جنونًا، أو نوعًا من الجنون الذى يذهب بصاحبه بعيدًا عن حكم العقل السليم. ولكن الأحمق، أو «شبه المجنون» يبدو فى بعض الحالات راضيًا عن نفسه، إلى حد بعيد، ومكتفيًا بذاته، لدرجة يظهر معها أنه فى مأمن من الشطط أو «الخرَف»، ويظل سادرًا فى غيّه لا يلوِى على شىء. ثم أنه قد يصل به ذلك الشعور بالرضا و«الاكتفاء الذاتى»، إلى حد الإحساس بأنه فى نعيم مقيم. هنا يأتى قول شاعر عربى آخر، ذو دلالة موحية: ذو العقل يشْقَى فى النعيم بعقلهِ وأخو الجهالة فى الشقاوة ينْعمُ فيالها من حكمة بالغة: أن الأحمق يعيش فى نعيم زائف أو «موهوم»، صنعه لنفسه صُنعًا، وإنْ كان ذلك النعيم فى حقيقته مرتعًا للشقاء العقلى المستبطن. وأما الجهالة فإنها تصوّر لصاحبها نعيمًا هو الشقاء العقلى بعينه. هذا، وحينما أخذت أقلبّ الأمر على وجوهه المتعددة، وجدت أن هناك أشخاصًا فى عالمنا ومنطقتنا ينطبق عليهم ذلك الواقع المتناقض والشعور الزائف، فهم حمقى، ولا أمل فى شفائهم من داء الحمق (أو الحماقة) ثم أنهم راضون عن أنفسهم تمام الرضا، ولا يزالون قائمين على ما هم فيه دون قيد أنملة من التدبّر ومراجعة الذات. • • • لعل من الأشخاص الذين ينطبق عليهم ذلك فى عالمنا وعصرنا، القائد الألمانىّ فى فترة الحرب العالمية الثانية (1939-45) وما قبلها بنحو عقد من الزمان أو أقلّ، وإنه: أدولف هتلر. ومن الأشخاص الذين تشهدهم المنطقة، (بنيامين نتنياهو) أو ما يسمّى «رئيس الوزراء» الأطول عمرًا فى منصبه خلال هذا التاريخ القصير للكيان الإسرائيلى (إزريل..!). فكيف اجتمع الحمق والشعور ربما بالسعادة، لدى هذين، وكيف تصالح (الجنون) والسرور، وربما (الشعور باللذة) فى نفس الوقت، عند كليهما..؟ لنبدأ بذلك المقيم، المرتحل، فى المنطقة، ما يسمّى (رئيس الوزراء) الأطول عمرًا فى منصبه فى الكيان الإسرائيلى إزريل. وأبرز ما يعيننا على فهم سلوك هذا الشخص (المعيب) هو ما جرى منه، وعلى يديه وأيدى عصبته من حوله، خلال الفترة الممتدة منذ بداية (طوفان الأقصى) فى السابع من أكتوبر «تشرين أول» 2023 حتى الآن تقريبًا. فهو استخدم القوة الباطشة، وانتهج نهج ممارسة «الإبادة الجماعية»، بشرًا وحجرًا، تجاه الشعب العربى الفلسطينى، وخاصة أسلحة الفتك والتدمير (المجلوبة بلا ثمن تقريبًا من الولاياتالمتحدةالأمريكية) إلى التوسع فى استخدام «سلاح الاغتيالات» للشخصيات ذات الوزن الثقيل فى حركة المقاومة، إلى غير ذلك من هدم المخيمات على رءوس ساكنيها (إن وُجدوا) وتحويل المستشفيات إلى ركام، بمن فيها وما فيها، إلى المباهاة برفع أعداد قتلاه من شهداء المقاومة، كل يوم، حتى لتكاد تصرخ من هول ما جرى ويجرى هنا وهناك. ودع عنك التوسع فى نهج التهجير والإقصاء والاستيطان إزاء أصحاب الحق الأصيل، العرب الفلسطينيين، فى القدس وما حولها، وفى الضفة الغربية، وعلى جوانبها أيضًا، مع استمرار طريق القتل الجماعى العشوائى، والتدمير المُمَنهج وغير المُمَنهج، كما فى (جنين) فى الضفة الغربية. فبماذا تسمّى ذلك، وأكثر منه، إلا أنه جنون، أو ضرب من الجنون، حماقة وأىّ حماقة، يندر أن يكون منها شفاء بدواء..؟ ولكنه ليس جنون الشخص الذى لا يدرك ما يفعل، ولا يعى، وإنما هو جنون الواعى، إن شئت التعبير، أو «الجنون الواعى» إن صحّ هذا التعبير أيضا، مع تعّمق الشعور بالرضا عن النفس، والاكتفاء الذاتى، وربما شعور السعادة الزائفة (وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعمُ..). وكلما برز بصيص من الضوء، من كُوّة صغيرة، أو من ثقب ضيق، لتحقيق نوع من المسالمة (لا نقول السلام) إذا به يفسد كل محاولة من هذا النوع، ليعود إلى طريق الشقاء الحقيقى، فاقد العقل، مع جهل مقيم. • • • وعلى الجانب الآخر، الذى قد يبدو متناقضًا مع ما سبقه وإن كان مطابقًا له فى المضمون، يبرز وجه (أدولف هتلر). صحيح أن ما فعله هتلر، إنما هو ثمرة ما صنعته الدول الغربية الكبرى بألمانيا، أثناء وعقب الحرب العالمية الأولى، حينما بلغ معها الشعور الألمانى بالمهانة والذلة، أقصاه، فكان ربما من (المنطقى) أن يرتفع صوت الرّد من جنس الفعل، بالتسلح المكثف، والعدوان الصارخ، والعنصرية (الشوفينية) العالية، كما جسدها جميعًا ذلك القائد (الألمانى) أدولف هتلر..! صحيح هو ذلك، ولكن أدولف هتلر فعل ما فعل، بأبناء الشعوب وأبناء بعض العناصر المغلوبة، بما فيها اليهود، وكذا غير المغلوبة (فرنسا مثالاً) بدرجات متفاوتة، حتى أزهق روحه بكلتا يديه، فى نهاية الحرب، هو ومن كانت معه، برصاصات كان لصليلها المدوّى أثره العميق، لوقت طويل. كان هتلر، مثله مثل «سىء الذكر» فى (إزريل) يفعل ما فعل راضيَا عن نفسه، ملتذّا، ومكتفيًا بذاته، على طول أوروبا وعرضها، ثم شمال إفريقيا، وغيرها. ولكنه الرضا المستبطن شقاءً عقليًا، وجهالة فى الحقيقة بغير نظير. إنها إذن الحماقة بعينها فى الحالتين، جالبة الشقاء بالجهالة، كما رأينا. ولقد انتهت حماقة هتلر الجاهلة الشقيّة، بما انتهت إليه، فهل نستبعد أن يجرى على (قرينه) (الإزريلى) ما جرى له، من قبل، من هزيمة مدوّية..؟ ليس هذا بمستبعد على كل حال، وإنما يلزم أن يقترن ذلك، بتعمق الوعى الذاتى لدى أصحاب الحق، واتخاذ نهج العمل الجاد سبيلاً، لإحقاق هذا الحق، بكل الوسائل المتاحة. وليس هذا بمستحيل ولا هو ببعيد.