على مدار أكثر من قرن من الزمان، وتحديدا منذ زوال الخلافة العثمانية فعليًا فى عام 1922 ورسميًا فى عام 1923، فشلت عشرات المحاولات السياسية لتحقيق الوحدة فيما بين الشعوب العربية، بداية بمحاولات من جانب عدد من الحكام العرب لإحياء الخلافة الإسلامية، ولكن هذه المرة بالعودة بها من حيث نشأت، أى أن تكون تحت حكم عربى، ومحاولات أخرى من جانب بعض الحكام العرب أيضًا لإنشاء ما سمى ب «الخلافة العربية»، مرورًا بوحدة اندماجية مصرية سورية فى النصف الثانى من عقد الخمسينيات من القرن العشرين تمثلت فى إنشاء كيان جديد باسم «الجمهورية العربية المتحدة»، لم يكتب لها الحياة سوى لثلاث سنوات وسبعة أشهر، قابلتها محاولة فاشلة لإقامة وحدة اندماجية مواجهة لها بين العرشين الهاشميين آنذاك فى الأردن والعراق، وما تلا الانفصال السورى عن مصر فى عام 1961 من محاولات جادة لإقامة وحدة ثلاثية بين مصر الناصرية وكل من سوريا والعراق فى ظل ائتلاف بعثى ناصرى قومى عربى فى الحكم فى البلدين فى عامى 1963 و1964، لم يتم ترجمتها إلى واقع ملموس.
ثم تجددت المحاولات فى نهايات العقد السابع من القرن العشرين، وبالرغم من التأثير السلبى لهزيمة العرب فى حرب الأيام الستة فى يونيو 1967، مما نتج عنه بدايةً ميثاق طرابلس بين مصر والسودان وليبيا ثم اتحاد الجمهوريات العربية فى مطلع عقد السبعينيات من القرن المنصرم بين مصر وليبيا وسوريا، وانهيار المحاولة بفعل التباعد السياسى بين مصر وكل من ليبيا وسوريا وبفعل تفاقم مشكلات الداخل السودانى فى السنوات التالية، ثم محاولة فشلت سريعًا لإقامة وحدة اندماجية بين سوريا والعراق تحت حكم جناحى حزب البعث العربى الاشتراكى فى البلدين ردًا على اتفاقيات كامب دافيد المصرية الإسرائيلية عام 1978. ومن الناحية النظرية تبدو وحدة شطرى اليمن التى تمت فى مايو من عام 1990 المحاولة العربية الوحدوية الأنجح حتى الآن، إلا أن النظرة المتعمقة للأمور لا تقودنا بالضرورة إلى التفاؤل فى هذا الشأن بسبب اندلاع حرب نتيجة رغبة الجنوب فى عام 1994 فى الانفصال واستعادة استقلاله، ثم ما آلت إليه الأوضاع فى هذا البلد العربى الشقيق والحبيب على مدار أكثر من عقد ونصف الآن من تفتت فعلى وتشرذم بين سلطات عديدة، وغياب سيطرة سلطة واحدة على كامل الأراضى اليمنية. ومنذ عقد الخمسينيات من القرن الماضى، وتحديدًا منذ اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية فى عام 1957 ثم قرار إنشاء السوق العربية المشتركة فى عام 1964، بدأ البعض من داخل صفوف النخب العربية ومن المثقفين العرب يحاول إقناع الحكومات والشعوب العربية بأنه يجب اتباع نهج مختلف وصولًا فى نهاية الأمر إلى تحقيق الوحدة بين الشعوب العربية، وهو المرور عبر بوابة النشاط الاقتصادى، مبرزين أنه نتيجة للمساحة الواسعة من المصالح العربية المشتركة فى هذا المجال فإن العمل للوصول إلى مرحلة التكامل الاقتصادى العربى هو الطريق المضمون والمأمون والبعيد عن تقلبات السياسة لبناء مصالح عربية مشتركة على الأرض تمثل سندًا وركيزة لتحقيق وحدة مستدامة فيما بين الشعوب العربية فى مرحلة تاريخية تالية لا تأتى بقرارات من الحكومات بل برغبة وضغط من الشعوب لأنها سترى فى ذلك ما يحقق مصالحها ويلبى تطلعاتها فى الحياة الحرة الكريمة. وبالرغم من بعض الإنجازات التى تحققت على الصعيد الاقتصادى، سواء على المستوى الإقليمى العربى، أو على مستويات شبه إقليمية مثل فيما بين بلدان مجلس التعاون الخليجى أو فيما بين البلدان الأعضاء فى اتفاقية أغادير التى تضم مصر والأردن وتونس والمغرب، فإن ما تحقق يبقى بالتأكيد متواضعًا إذا ما قسناه على أساس أربعة معايير. المعيار الأول هو إذا قيس ما تحقق على التطلعات والتوقعات والأحلام التى صاحبت الرهان على المسار الاقتصادى منذ انطلاقه منذ ما يقرب من سبعة عقود، بينما المعيار الثانى هو تواضع ما تحقق قياسًا على المدى الزمنى المنصرم منذ بدأت خطوات العمل الوحدوى العربى على الصعيد الاقتصادى، ويكمن المعيار الثالث فى المنهج المقارن، أى إذا ما قسنا ما حققه العرب على صعيد التكامل الاقتصادى بما حققته تجمعات إقليمية أخرى، بعضها بدأ مع إطلاق العرب لاتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية، مثل الاتحاد الأوروبى، وبعضها الآخر بدأ بعد العرب، مثل تجمع «الآسيان» لبلدان جنوب شرق آسيا، أما المعيار الرابع والأخير فهو التنبؤ بأن مسار التكامل الاقتصادى سيضمن الابتعاد عن تقلبات السياسة العربية، وهذا لم يتحقق على أرض الواقع وباتت العلاقات الاقتصادية البينية العربية فى العديد من الحالات أسيرة للإرادات السياسية للحكومات العربية ومن ثم لمدى جودة أو تردى العلاقات السياسية فيما بين تلك الحكومات. وبقى لعقود طويلة أكثر ما يوحد العرب ويجمعهم ويشعرهم بوحدة وجودهم وهويتهم ومساحة المشترك الثقافى والحضارى واللغوى الواسع فيما بينهم هو الثقافة والفنون وما يرتبط بها من مؤسسات، مثل مجامع اللغة العربية فى البلدان العربية المختلفة، واتحادات الكُتاب والأدباء، أو نقابات الفنانين، أو الموسيقيين العربية، واستمر ما يوحد الشعوب العربية هو أيضًا ما ينتج من إبداعات وتجليات تتمثل فى أدب الرواية والشعر والقصة القصيرة، وفنون المسرح والسينما والمسلسلات التليفزيونية والموسيقى والغناء وغيرها، وتندرج مكونات الثقافة والفنون تحت مظلة ما بات يطلق عليه منذ مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين مصادر «القوة الناعمة». وتندرج أيضًا تحت نفس المظلة الواسعة للقوة الناعمة الرياضة بأنواعها الجماعية والفردية، ومع تعدد أشكالها وصورها، وبالتأكيد فإنه من المفترض عمومًا أن الرياضة، وبالذات الرياضات ذات الشعبية العريضة، مثل كرة القدم، هى فى الأصل وسيلة من وسائل التعارف والتقارب بين الشعوب فى عمومها، كما نتعلم من تاريخ نشأة الألعاب الأولمبية ذاتها، إلا أن الواقع المعاصر يروى لنا حكايات على الصعيد العالمى مؤداها أنه فى بعض الحالات، وأيضًا بالذات فى كرة القدم، أدت المنافسة الرياضية، عندما خرجت عن إطارها السليم وغلبت عليها أجواء من التعصب والتشنج، إلى نشأة حساسيات ومرارات وعداءات، بل وفى حالات محدودة حتى حروب، بين بلدان وشعوب، بدلًا من أن تعمل فى الاتجاه المعاكس لذلك. وللأسف لم يكن الوطن العربى استثناءً من تلك الأحداث المؤسفة التى حولت الرياضة فى بعض الحالات إلى مصدر نفور وتناحر فيما بين الشعوب العربية بدلًا من أن تكون أداة توحد وانصهار وتقارب وتناغم وانسجام. إلا أن فعاليات بطولة كأس العرب لكرة القدم التى جرت فى العاصمة القطريةالدوحة على مدار شهر ديسمبر الجارى منحت الشعوب العربية أملًا فى أن تنضم الرياضة، وتحديدًا كرة القدم، إلى الثقافة والفنون، كأدوات تعمق من التفاهم المتبادل وتزيد من فرص وأفاق التقارب وتبرهن على المكونات المشتركة فيما بين الشعوب العربية، وجاء ذلك بسبب طابع البهجة والألفة التى ميزت الحضور الجماهيرى الواسع للمباريات، حيث كان البعض قد قفز مبكرًا لاستنتاج خاطئ مؤداه أن مغادرة منتخب الدولة المضيفة قطر للبطولة فى مراحلها الأولى سوف يؤدى لانخفاض كبير فى الحضور الجماهيرى، وهو ما لم يحدث على الإطلاق، بل استمرت أعداد ضخمة من المشاهدين العرب من مختلف الجنسيات العربية تحضر المباريات بكثافة، بعضهم جاء من المقيمين فى دولة قطر ولكن البعض الآخر جاء من العواصم العربية خصيصًا لحضور فعاليات البطولة. من جهة أخرى، فإن الأجواء الودية التى جرت فيها المباريات والتى اتسمت بروح التنافس الشريف والتشجيع الراقى البعيد عن التعصب وعن التقليل من الآخر أو التحريض عليه شجعت على حضور عائلات عربية بالكامل للمباريات فى ملاعب الدوحة، بوجود الزوج والزوجة والأبناء والبنات، وكان خلو المباريات من أى تلفظ مسىء فرصة كبيرة لتوفير مناخ يسمح بحضور كثيف من النساء والفتيات والأطفال، وهو الأمر الذى زاد من حالة من الإدراك لدى الجميع، وكلهم يشجعون فرقهم بلسان واحد ولغة واحدة، وإن تعددت الهتافات وتباينت النداءات، بأن ما يقرب الشعوب العربية أعمق وأوسع بكثير مما يبدو أنه يفرقهم. المأمول أن هذه الحالة التى أفرزتها فعاليات بطولة كأس العرب لكرة القدم فى الدوحة تتواصل وتستمر وتتسع بلا انقطاع وتشكل نقطة البداية فى مشروع عربى جامع يستهدف جعل الرياضة، وفى مقدمتها الرياضات الشعبية مثل كرة القدم، والتبادل الرياضى البينى العربى، وسيلة وأداة تساهم، ولو بقدر ما، فى تحسين الأجواء فيما بين الشعوب العربية وفى إيجاد بيئة مواتية للمزيد من التقارب والتفاهم العربى.