ستغير الحرب الإسرائيلية على غزة ولفترة طويلة قادمة خريطة اهتمامات المواطنين في المجتمعات العربية. فبعد أن تميزت الأعوام 2004-2008 بحراك سياسي غير مسبوق وبنقاشات موسعة حول فرص وإمكانات التحول الديمقراطي، يعود اليوم الصراع مع إسرائيل إلى الواجهة ويدفع بمأساوية لحظته الراهنة الرأي العام العربي في اتجاهات بعيدة كل البعد عن حديث الديمقراطية. بالقطع لم تقتصر أحداث الأعوام الماضية على صناديق الانتخابات والمظاهرات السلمية المطالبة بالحريات المدنية وحقوق الإنسان، بل التئم في ثنايا مشاهدها من التفجيرات الإرهابية والعنف الطائفي والممارسات القمعية من جانب النظم السلطوية الشيء الكثير. كذلك لم يغب الصراع العربي-الإسرائيلي تماماً عن الأنظار، فدوامات العنف في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة استمرت وتسارعت حركتها في لحظات عديدة وكذلك شغلت الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006 الرأي العام العربي طويلاً. إلا أن الواقع ينبئنا أن أحداث فلسطين على مأساويتها كانت قد أضحت جزءاً من روتين الحياة اليومية للمواطنين العرب بكل ما يعنيه ذلك من هامشية الأثر ومحدودية التفاعل وأن مشاهد صيف لبنان الدامي سرعان ما توارت عن الواجهة بعد انتهائها ومع دخول القوى اللبنانية المختلفة في صراعات داخلية أفقدتها جميعاً جزءاً رئيساً من مصداقيتها وقللت من التعاطف الوقتي الكاسح مع من اصطفته الجماهير العربية لدور البطولة في حرب 2006 لحزب الله. في المقابل، بدأت خلال الأعوام 2004-2008 أغلبيات واضحة في المجتمعات العربية تدرك – وكما تدلل العديد من مسوح الرأي العام التي أجرتها مراكز بحثية عربية وأجنبية - أن المخرج الوحيد من وباء الإرهاب المتفشي وشبح الطائفية وجموح السلطوية إنما يتمثل في إنجاز تحول ديمقراطي فعلي يضمن تداول السلطة ومسئولية الحكام أمام المواطنين والمشاركة الشعبية المنتظمة في تسيير الشأن العام من خلال انتخابات دورية نزيهة وشفافة. بدا مجمل القوى السياسية في العالم العربي، نخب حاكمة وحركات معارضة، كالراغبة في التملص من عبء القضايا والصراعات الإقليمية الذي أثقل كاهلها وأعاق تقدمها عقوداً طويلة التركيز على التحديات الداخلية علها تصيب بعض النجاح. تراجعت، إذا ما استثنينا خطب زعماء حزب الله وقيادات حماس، شعارات الجهاد والمقاومة والتحرير ذات الطابع الأيديولوجي شديد الحدية لتحل محلها وعود وبرامج الإصلاح الدستوري والسياسي الحكومية ومطالبة المعارضات بالشروع الفوري في تطبيقها جنباً إلى جنب مع البحث عن حلول تفاوضية للأزمات الإقليمية المستمرة وفي موقع القلب منها قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي. بالتأكيد لم تتحول المجتمعات العربية إزاء تحايل الحكام وضعف المعارضة والعنف المتواصل هنا وهناك إلى واحة للديمقراطية، إلا أن الأخيرة أصبحت مناط النظر والمعيار الأساسي للحكم على الأمور. الآن وعلى وقع الضربات التدميرية للآلة العسكرية الإسرائيلية في فلسطين وأشلاء المدنيين المتناثرة في مناطق غزة السكنية وفي ظل التواطؤ البين للقوى الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة مع تل أبيب واستمرار عذابات الفلسطينيين بعد توقف العمليات العسكرية يطل الوجه القبيح للصراعات الإقليمية ويصيغ وجدان وإدراك المواطن العربي مجدداً حول ثنائية المقاومة والاستسلام، فإما مقاومة مشروع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية في الشرق الأوسط أو الاستسلام والتنازل عن حق الأمة العربية والإسلامية في الوجود وحماية مصالحها المشروعة. تتبدل إذاً خطوط الاصطفاف السياسي في المجتمعات العربية، في المقام الأول في المشرق القريب جغرافياً من فلسطين، من تباينات تستند إلى الموقف من قضايا التحول الديمقراطي إلى انقسام حدي بين معسكرين: نخب حاكمة تنأى بنفسها عن الصراع الدائر رافعة شعارات العقلانية والحلول التفاوضية والتسوية السلمية ونخب حاكمة أخرى توصف ذواتها بالممانعة وتتماهى معها حركات معارضة إسلامية وعروبية تتهم المعسكر الأول بالتخاذل وتدعو إلى فتح باب الجهاد والمقاومة بعد أن وجدت في حركة حماس وأهل غزة الأبطال المنتظرين تماماً كما رفعت من قبل حزب الله إلى مصاف بطل الأمة الأوحد. وعلى الرغم من أن البعض في صفوف حركات المعارضة، خاصة الإسلامية منها، يسعى إلى الربط بين تخاذل الحكومات وغياب الديمقراطية داخلياً ويدلف منه إلى المطالبة بإصلاح جذري، إلا أن الأمر المؤكد أن عودة الصراع مع إسرائيل إلى قلب النقاش العام والحياة السياسية في العالم العربي يضعف عملاً من أهمية قضايا التحول الديمقراطي ويقلل بحكم حدية الانقسام بين معظم النخب الحاكمة والمعارضة من إمكانات إنجاز خطوات إصلاحية على الأرض تقتضي قدراً أدنى من التوافق والمرونة وقبول التدرجية من القوى السياسية الرئيسية. الأخطر من ذلك هو أن المضامين الرئيسية لمواقف جل حركات المعارضة الإسلامية والعروبية إنما تدلل على شمولية وشعبوية تثير العديد من الشكوك حول المعنى الفعلي لالتزامها المعلن بالديمقراطية ورغبتها في التحول الديمقراطي. فالبون شاسع بين اعتماد خطاب عقلاني، يسعى محقاً فضح الآلة العسكرية الإسرائيلية والكشف عن جرائمها ضد المدنيين ويسعى إلى محاكمة المسئولين عنها دولياً وانتقاد القبول الأمريكي والانتصار لحق الفلسطينيين في مقاومة المحتل، وبين استخدام مفردات عنصرية، إن ذات خلفية دينية أو عروبية، من شاكلة اليهود أحفاد القردة والخنازير واليهود القتلة وجرائم بني صهيون وتحالف الصليبيين والصهاينة أو التهليل اللاأخلاقي لسقوط ضحايا مدنيين (على قلة عددهم وكثرة عدد الضحايا المدنيين في صفوف أهل غزة) في إسرائيل من جراء قصف حماس لبلدات الجنوب الإسرائيلية بعد أن نزعت صفة الإنسانية عن مواطني مجتمع اختزل وجوده في عبارة الكيان الغاصب. وليت الأمر مجرد حس شعبوي تتسم به حركات المعارضة الإسلامية والعروبية ويدفعها للتجاوب ببرجماتية مع عواطف قواعدها الجماهيرية واستغلالها لأغراض الحشد والتعبئة، بل هو تعبير عن قناعات ثابتة في قلب رؤى وبرامج هذه الحركات حالت دوماً دون اضطلاعها بواحدة من أهم وظائف القوى السياسية الساعية للإصلاح الحقيقي آلا وهي عقلنة مشاعر الجماهير وترشيدها ديمقراطياً عوضاً عن التلاعب الانفعالي والنفعي بها. تلك الحركات مدعية الديمقراطية لا تدرك الجوهر اللاديمقراطي لقناعاتها ولا يزعجها زج حماس اللا مسئول بغزة وأهلها إلى أتون آلة الحرب الإسرائيلية بعد رفض تجديد التهدئة. عندما تبدو نظم سلطوية حاكمة تتحايل على الديمقراطية أكثر اتزانا وعقلانية، بل وإنسانية من حركات معارضة تطالب بها، عندما تسفر قطاعات جماهيرية واسعة عن وجهها الشعوبي القبيح أو يزج بها في هذا الاتجاه لغياب القوى القادرة على ترشيد عاطفتها، يتراجع بعنف الأمل في مستقبل قريب يشهد تحولاً ديمقراطياً حقيقياً على أرض العرب. أما الدفع هنا باستثنائية لحظات الصراع الإقليمي وبإرثها الديماموجي المتراكم في جنبات مجتمعاتنا فلا يخرج عن كونه تجاهلاً اعتذارياً لحقيقة التجذر المرعب للشمولية والشعبوية في الحياة السياسية العربية. لن تتوارى التداعيات القاتمة للحرب الإسرائيلية على غزة سريعاً، بل على الأرجح ستبقي معنا نخب وجماهير لفترة طويلة قادمة مذكرةً بأن الخاسر الأكبر في نهاية 2008 وبداية 2009 هو مرة أخرى فرص التحول الديمقراطي في العالم العربي.