تحفَّز أفراد الأسرة الصغيرة أمام الشاشة وهم يُتابعون مجرَيات المباراة. تلقَّت الشِباك الهدفَ الأول، تبِعه الثانى، ولم تكن النتيجة مُتوقَّعة. المُهاجمون مُحاصرون والمُدافِعون تائهون، يتخبطون أحدهم فى الآخر. دقائق انقلب بعدها الغضب إلى حفل من التعليقات الساخرة، وراح الجالسون يتبادلون فى لحظة اليأس العظيم حكاياتٍ طريفة، حول أتعس المهاجمين حظًا، وأسوأ المدافعين أداءً، وعن حراس المَرمَى الذين يتعرَّضون لمُناورات مُخجِلة من الخُصوم؛ تنتهى باستقبالهم أهدافًا عَجيبة مضحكة. • • • المَرمَى اسمُ مكان من الفعل رَمى بمعنى ألقى، الفاعلُ رامٍ والمفعول به مَرمِىّ بكسر الميم الثانية وتشديد الياء، أما المصدر فرمْى بتسكينها، وقد استُخدِمَت لفظة المَرمَى فى قديم العصور للإشارة إلى نافذة صغيرة فى جدران حِصن؛ تُرمَى الحجارةُ منها على الأعداء خلال القتال، والرُّماة هم القائمون على التصويب؛ سواء بالأسلحة النارية، أو بالأقواس والسهام أو حتى بالأيدى العارية. لم يَعد اسمُ «رامى» شائعًا كما كان فى فترات سابقة؛ لكن اسمَ الشاعر «أحمد رامى» ما زال حاضرًا مُتداولًا إلى يومنا هذا؛ فقد ارتبط بالأطلال، واحدة من أعظم القصائد التى غنتها أم كلثوم، وكذلك بقصة حبٍ أحادية الجانب؛ لم يكتب لها أن تتوج بالنهاية المَرجوة. • • • إذا انكشفت الثغراتُ وبان المَخبوء؛ بات المرءُ فى مَرمى النيران؛ مُعادية أكثر الأحيان وفى بعضِها صَديقة. يقف رئيس الولاياتالمتحدة فى مَرمَى نيران جهات داخلية عديدة؛ صحافيين، ومقدمى برامج كلامية، وأصحاب قنوات إلكترونية، وساسة مُعارضين؛ هالهم جميعًا ما يأتى به من موقعه الرفيع الذى يتطلب شيئًا من الاتزان، ويستلزم بعضًا من الحِكمة والالتزام بالأعراف والتقاليد. • • • الرَّمى تَسديدٌ، والتَّسديد حِرفة تتطلب الثباتَ العصبىَّ ورباطَ الجأشَ والتقديرَ السَّليم. أوصَت بعضُ المأثورات الدينية بتعليم الصّغار فنون الرّماية وركوبِ الخيل والسباحة؛ وهى رياضات ذات فوائد جمَّة لصِحَّة الجَّسد، فإن أُضيفت إليها ألعابُ العَدو وسِلاح المُبارزة؛ صرنا أمام لعبةَ الخُماسى الحديث التى تُعَد رياضة أوليمبية أصيلة ولنا من جوائزها نصيب. • • • قد يَرمق واحدٌ الآخرَ بعنفٍ فى مَوقِف مُحتدِم، يرميه بنظرة حادة تجعله يَصمت ما كان مُتكلمًا، أو يغادر مكانه ما كان مُتأنيًا مُماطلًا، أو يغير رأيَه وقوله. النظرةُ أقوى بعضُ المرات من خُطبة كاملة، وخطابُ العينين لكلّ ذى نباهةٍ واضحٌ مَفهوم، وإذ سَقط أغلبُ الشُّعراء صَرعى العِشق؛ فقد عللوه فى أبياتهم برَمية سَهمٍ من عينى المَحبوبة. • • • لضاربةٌ الوَدع فى مُعظم أعمال الدراما عبارةٌ أثيرة؛ تقولها مُتصنّعة التدلُّل والإغراء: «ارمِ بياضك يا شابة». البياضُ هنا كناية عن النقود التى ستضعها العابرةُ فى المنديل، مُتمنية أن تحصُل على نبوءة ترضيها، وتعطيها أملًا ولو كاذبًا فى تحقيق مناها. • • • إذا رَمى الرَّجلُ يمينَ الطلاقِ على زَوجه؛ فعادةٌ تشبه القَّسم المَشروط بحدوث شىء مُعيَّن، والفعلُ تهديد فى غير مَحله، يجعلُ من العلاقة المتينة القائمة بين اثنين أمرًا سطحيًا، يمكن فَصمُ عراه فى لحظة وتحويلُه إلى سَراب. بعضُ العارفين لا يعتدُّون بالفعل ما وَقع بناءً على غَضب عارم، والبعضُ الآخر يأخذه بجدية ولا يرى فيه مجالًا للتراجُع، وعلى كل حال؛ يأخذ التحايلُ مَجراه فى مُعظم المواقف، وغالبًا ما يتأتى الالتفافُ على النتائج. • • • تُصيب الرَّمية المُوفَّقة هدفَها بدقة، أما الرَّمية الطائشة فتذهب فى الهواء. اشتهرت عبارةُ النجم استيفان روستى: «نشنت ونيشانك رَشق» فى فيلم «عفريتة هانم» الذى أنتِجَ بنهاية الأربعينيات، وله مَقولة أخرى مشابهة هى: «نشّت يا فالح» فى فيلم «حبيبى الأسمَر» الذى أنتِجَ بنهاية الخمسينيات، والعبارتان تحملان سُخريةً ظاهرة من هذا الذى جاء برمية خائبة، فأخطأ المَرمَى وأصاب غيره. • • • البعيد عن مَرمَى النَّظر هو ما تتعذَّر رؤيته، والتعبير يُستخدَم مجازًا لاستبعاد حدوث أمرٍ ما، وفى استحالته يُقال أيضًا: «بعيد عن شنبك»، أما إذا أراد القائلُ العكسَ؛ استخدم تعبير: «على مَرمَى حَجَر» والقصد قُربٌ ودنو. • • • إذا استاء واحدٌ من آخر لأنه «بيرَمّى كلام»؛ بتشديد الميم، فتعبير مَألوف يُدلل على إتيانه بما يشبه التَّعريض؛ حيث لا تُذكَر الإساءةُ بصورة مباشرة، إنما يسير الحديثُ فى خطٍ مُوازٍ، فيلتقط الناسُ المُراد منه بغير تصريح. الرغبةُ فى عدم المُواجهة هى السائدةُ هنا، وألعابُ الكلام لا أكثر منها ولا أبرَع فيها مِننا، والمَعنى الواحد له عَشرات الوَسائل المُعبّرة عنه، والقُدرة على الفهم وحلّ الألغاز مَوهبةٌ أصيلة عند أغلب السَّامعين. • • • يتبارى الأطفالُ فى مناطق مُختلفة من العالم على رَمى المُسطَّحات المائية بالحِصى. تقفز الحصاةُ صانعةً دواماتِ مياه مُتكاثرة، تتَخذ نمطًا مألوفًا وبهيجًا، يَرمى كلٌّ منهم على امتداد سَاعده ويُتابع النتيجة؛ وفى عدد الدوَّامات والقفزات مِقياسٌ للمكسَب والخسارة. كانت الألعاب فى قديم الزمن بسيطة خفيفة الروح، والبهجة الناتجة عنها حقيقية لا افتعال فيها؛ لكنها تعقدت بمرور الوقت إلى أن صارت ثقيلة وعنيفة؛ لا تسبب الفرحة بل تضفى على اللاعبين مزاجًا داكنًا قلقًا. • • • قال معن بن أوس: أعلمُه الرمايةَ كل يَوم .. فلما اشتدَّ ساعدُه رَمانى، ويلاقيه المأثور الشعبى الذى يحكى عمَن يعضّ اليد «اللى اتمدَّت له»، والمعنى فى الحالين انقلابٌ غير مُتوقَّع على صاحبِ الفضل، وإيذاؤه من حيث لا يَحتسب. يُوصَم المُنقلِب بالخِسَّة إذ لم يَصُن المَعروف، ولم يحفظ عطاء من ساعده وعلمه، والأمثلة كثيرة وافرة. • • • إذا رَمى فلانٌ بفعلته إلى لفت الأنظار؛ فقد استهدفَ جذبَ الانتباه إليه. بعضُ الأشخاص لا يشعرون بالرضاء والشبع إلا حين يحتلوُّن كاملَ المشهد؛ يرتكبون كل ما مِن شأنه أن يجعلهم فى بؤرة اهتمام للآخرين؛ ولو أظهرهم حمقَى مأفونين. كثيرة هى الأفعال الجاذبة؛ لكن معظمَها فارغٌ بلا قيمة، وإذا طغت توافه الأمورِ على العقول وامتلكتها؛ ضاقَ مَجالُ العملِ الجَّاد وأظلم الأفق.