منذ اندلاع الحرب الأهلية فى السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، يعيش هذا البلد العربى الإفريقى الشقيق مأساة إنسانية وسياسية تتعمق يومًا بعد يوم. الخرطوم ومدن أخرى تحولت إلى ساحات قتال، والبنية التحتية المدنية تهاوت تحت ضغط العنف والانقسام، وملايين السودانيين أصبحوا نازحين أو لاجئين فى دول الجوار. الحرب ليست فقط مأساة داخلية، بل تهديد حقيقى للأمن الإقليمى العربى والإفريقى، لما يحمله استمرارها من مخاطر تفتيت السودان، وتوسيع رقعة الفوضى على حدوده، وفتح الباب أمام تدخلات خارجية متعارضة المصالح والأهداف. فى هذا السياق المأزوم، يبرز سؤال الضرورة: ما المطلوب من المنظمات الإقليمية -جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى - والمجتمع الدولى، لإيقاف نزيف الحرب السودانية؟ وكيف يمكن لمصر، الدولة الجارة ذات المصلحة الحيوية فى وحدة السودان واستقراره، أن تتحرك بفاعلية لإنهاء الحرب ودفع الأطراف نحو تسوية سياسية شاملة تحفظ السودان وتخدم أمن الإقليم بأسره؟ تبدأ الإجابة عن السؤال الأول من إدراك أن المواقف الإقليمية والدولية، رغم تعددها، ما زالت حتى الآن عاجزة عن فرض مسار فعّال لوقف الحرب. الجامعة العربية اكتفت فى مراحل كثيرة بإدانة العنف والدعوة إلى الحوار، بينما لم تطور حتى الآن آلية مستقلة أو إطارًا سياسيًا جامعًا يضع الأطراف السودانية أمام مسئولياتها ويمنح مساعى الوساطة العربية قوة ضغط حقيقية. أما الاتحاد الإفريقى، فبعد أن فقد زمام المبادرة فى الأشهر الأولى من الحرب، حاول لاحقًا استعادة دوره عبر لجنة رفيعة المستوى، لكن ضعف التنسيق مع القوى الإقليمية الأخرى، وتباين أولويات بعض الدول الإفريقية، جعلا جهوده محدودة التأثير. فى المقابل، يتحرك المجتمع الدولى ببطء واضح، إذ تركز القوى الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى، على الاحتواء الإنسانى للأزمة أكثر من السعى الجاد لوقف الحرب. تعدد مسارات التفاوض، وتنافس الوسطاء، وغياب مرجعية موحدة، كلها عوامل أضعفت أى إمكانية حقيقية لتحقيق اختراق سياسى حتى الآن. • • • من ثم، المطلوب اليوم من جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى أن يعيدا بناء تحركهما نحو السودان على أسس جديدة. ليس كافيًا أن يكتفيا بالدعوات العامة أو بالمواقف اللفظية، بل أن يؤسسا لآلية عربية - إفريقية مشتركة تضع نهاية للتشتت القائم فى المبادرات. يمكن لهذه الآلية أن تتخذ شكل لجنة مشتركة تجمع ممثلين عن الجامعة والاتحاد والدول المجاورة للسودان، وتكون لها صلاحيات واضحة فى الوساطة، وتدعمها الأممالمتحدة سياسيًا ولوجستيًا. يجب أن يكون هدفها الأول وقف إطلاق النار، على أن يرتبط ذلك بترتيبات إنسانية عاجلة تضمن حماية المدنيين وتأمين ممرات آمنة للمساعدات. بعد ذلك، يمكن الانتقال إلى مرحلة المفاوضات السياسية الشاملة، التى تتناول ليس فقط تقاسم السلطة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بل أيضًا مستقبل الدولة السودانية ووحدتها وإصلاح مؤسساتها الأمنية والاقتصادية. إنّ أى جهد عربى-إفريقى مشترك لن يكتسب مصداقيته إلا إذا وضع البعد الإنسانى فى صدارة أولوياته. ملايين السودانيين اليوم يواجهون الجوع والمرض والنزوح، ولا يمكن الحديث عن تسوية سياسية فى ظل استمرار معاناة كهذه. على الجامعة العربية أن تتحرك مع منظمات الإغاثة العربية لتقديم مساعدات عاجلة، وأن تنسق مع الأممالمتحدة والمنظمات الدولية لتوسيع نطاق الاستجابة الإنسانية داخل السودان، وفى الدول التى تستضيف اللاجئين. الجانب الإنسانى ليس تفصيلًا ثانويًا، بل هو مدخل أساسى لاستعادة الثقة بين السودانيين، ولتهيئة بيئة ملائمة للحوار السياسى لاحقًا. • • • أما عن مصر، فخياراتها تجاه الأزمة السودانية معقدة وحساسة فى آن. فالسودان ليس دولة جوار فحسب، بل عمق استراتيجى متصل بالأمن القومى المصرى فى أكثر من ملف: من أمن الحدود الجنوبية إلى استقرار حوض النيل، ومن التوازنات الإقليمية فى القرن الإفريقى إلى منع تدفقات اللاجئين عبر الحدود. لذلك، فإن استمرار الحرب يمثل تحديًا مباشرًا للأمن القومى المصرى. غير أن القاهرة، وهى تدرك ذلك جيدًا، تواجه معضلة الموازنة بين مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، والحاجة إلى التحرك لمنع انهيار الدولة السودانية. المطلوب من مصر اليوم أن تقود جهدًا دبلوماسيًا هادئًا وفعّالًا يجمع بين الوساطة السياسية والمبادرة الإنسانية. سياسيًا، تستطيع القاهرة أن تستخدم علاقاتها التاريخية مع الجيش السودانى ومع أطراف مدنية مؤثرة لدفعها نحو قبول وقف إطلاق النار والجلوس إلى مائدة تفاوض شاملة. كما يمكن لمصر أن تكون الجسر الذى يربط بين المبادرات الإقليمية المتعددة، بحيث توحّد المسارات وتمنع تضاربها، مستفيدة من علاقاتها المتوازنة مع السعودية والإمارات وتشاد ودول حوض النيل. إنّ خبرة القاهرة الطويلة فى إدارة ملفات الوساطة الإقليمية تمنحها ميزة نسبية فى هذا الدور، خاصة إذا ما تم بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقى. أما إنسانيًا، فإن مصر قادرة على قيادة جهد منسق لإغاثة اللاجئين السودانيين على أراضيها وفى دول الجوار، وإطلاق مبادرة عربية–إفريقية لتخفيف المعاناة الإنسانية فى السودان. مثل هذا التحرك يعزز مصداقية الدور المصرى، ويجعل القاهرة طرفًا فاعلًا لا مجرد مراقب فى جهود إنهاء الحرب. فى الوقت ذاته، تستطيع مصر عبر أدواتها الدبلوماسية والإعلامية ومراكز التفكير أن تدفع باتجاه بناء رؤية إقليمية أوسع للأمن الجماعى فى وادى النيل والقرن الإفريقى، تقوم على مبدأ الترابط بين الاستقرار السياسى والتنمية الاقتصادية والأمن الإنسانى. وفى ظل التغيرات المتسارعة فى الإقليم، ينبغى لصانع القرار فى مصر أن ينظر إلى السودان ليس فقط من زاوية الخطر، بل من زاوية الفرصة. فاستقرار السودان وعودته إلى الحياة السياسية الطبيعية يمكن أن يشكلا ركيزة لتعاون اقتصادى وتنموى بين البلدين، يمتد إلى مشروعات البنية التحتية والطاقة والزراعة، ويعزز من حضور مصر فى إفريقيا جنوب الصحراء. بهذا المعنى، فإن إنهاء الحرب فى السودان ليس فقط ضرورة أمنية، بل مصلحة استراتيجية لمصر والمنطقة بأسرها. • • • يبقى أن نجاح أى تحرك إقليمى أو دولى لإنهاء الحرب السودانية مرهونًا بقدرة الأطراف الخارجية على تجاوز منطق الاصطفافات الضيقة. لا يمكن لأى مبادرة أن تنجح ما دامت بعض القوى تسعى لاستخدام الصراع لتعزيز نفوذها أو تقويض نفوذ خصومها. المطلوب هو أن تتوافق الجامعة العربية والاتحاد الإفريقى والأممالمتحدة على إطار جامع يستند إلى وحدة السودان وحق شعبه فى تقرير مستقبله بعيدًا عن الإملاءات الخارجية. إن السودان يقف اليوم على مفترق طرق حاسم: إما أن ينتصر منطق التسوية السياسية ويحافظ البلد على وحدته، وإما أن تستمر الحرب بما تحمله من خطر التفكك والفوضى. الدور العربى والإفريقى والدولى، ودور مصر فى القلب منه، هو الذى سيحدد إلى أى اتجاه ستميل الكفة. التحرك العاجل، المنسق، والمستند إلى رؤية إنسانية وسياسية متكاملة، هو الطريق الوحيد لإنقاذ السودان، ولمنع تكرار مآسى انهيار الدول فى منطقتنا.
أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى