لا يخلو تحديد مفهوم دقيق للسلام من صعوبات سياسية وقانونية ومعرفية، بالنظر إلى انفلاته وتطوره، ولاختلاف تصورات الباحثين والمهتمين فى هذا الخصوص. أما على مستوى الممارسات الدولية، فقد شهد مفهوم السلم والأمن الدوليين تطورًا كبيرًا، فبعد أن كان خلال فترة الحرب الباردة، يستند ضمن مرتكزاته إلى محدد وحيد يتعلق بالتهديدات العسكرية، أصبح المفهوم أكثر شمولية، وانفتاحًا على مجموعة من العناصر الأخرى. شكل تحقيق السّلم والأمن أحد الأولويات التى حظيت باهتمامات دينية، وفلسفية، وفكرية ومجتمعية، لارتباطه بأحد أهم العوامل الكفيلة بالتمتع بمختلف الحقوق، ولذلك يجد البحث عن تعزيز السلم، مرتكزاته وجذوره لدى الحضارات القديمة، التى سعت إلى نسج تحالفات وإلى عقد معاهدات، قبل أن يتطور الأمر مع معاهدة «ويستفاليا» لعام 1648، التى حاولت إرساء وضع دولى يقوم على احترام السيادة، وعلى ضوابط تدعم الحدّ من الحروب. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، تعززت الجهود الدولية على طريق الحد من استخدام القوة فى العلاقات بين الدول، كما تم إرساء مجموعة من المبادئ المتعلقة بالقانون الدولى العام، والقانون الدولى الإنسانى على وجه الخصوص. وشكل قيام عصبة الأمم فى أعقاب الحرب العالمية الأولى خطوة مهمة، ساهمت إلى حد ما فى التقليل من توجهات الدول نحو تنفيذ سياساتها عبر أساليب القوة، غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية فى عام 1937 التى عرفت استخدام السلاح النووى، وخلّفت خسائر كبيرة فى الأرواح والمعمار والبيئة والاقتصاد، عجّل بانهيار هذه المنظمة، لتقوم محلها هيئة الأممالمتحدة، التى حاولت الاستفادة من أخطاء الماضى، بعدما وضعت مجموعة من المبادئ التى تحكم العلاقات الدولية، والتى من بينها منع استعمال القوة فى العلاقات الدولية أو مجرد التهديد باستخدامها. ورغم الاهتمام الكبير الذى أولته الأممالمتحدة لحفظ السلم والأمن الدوليين، باعتباره أحد أولوياتها، فإن الميثاق الأممى لم يحدد بتفصيل هذا المفهوم رغم تكراره أكثر من مرّة. ومع تصاعد حدة الصراع الإيديولوجى بين المعسكرين الغربى بزعامة الولاياتالمتحدة من جهة، والشرقى بزعامة الاتحاد السوفييتى (سابقًا) من جهة أخرى، وما رافق ذلك من رعب، وتوترات فى مناطق مختلفة من العالم، إضافة إلى تصاعد حدة الاستقطاب، والسباق نحو التسلح، وسياسة الأحلاف العسكرية، والحروب بالوكالة، وجمود مجلس الأمن بفعل الإقبال الكثيف على استخدام حق الاعتراض (الفيتو)، بدأت تتزايد المخاوف الدولية من احتمال اندلاع حروب نووية لن يكون معها منتصر أو منهزم، وهو ما جعل مفهوم السلام يقترن فى هذه الفترة من تطور العلاقات الدولية بغياب التهديدات العسكرية. ومع انتهاء الصراع الأيديولوجى، والاستقطاب الدولى وعودة الأممالمتحدة إلى الواجهة فى بداية التسعينيات من القرن المنصرم بعد عقود من الشّلل إثر انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتى ونهاية الحرب الباردة، بدأ المجتمع الدولى يلتفت تدريجيًا إلى المخاطر الدولية العابرة للحدود، سواء تعلق الأمر بتداعيات التحولات الديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتلوث البيئة، والإرهاب الدولى، والجريمة المنظمة والأمراض الخطرة العابرة للحدود، والفقر، وتهريب المخدرات، وندرة مصادر الطاقة والغذاء والمياه، والجرائم الرقمية، والهجرة بشتى مظاهرها.. وهو ما جعل مدلول السلام يتسع فى هذه الظرفية. وقد كان لحادث «تشرنوبيل» النووى الذى وقع فى أوكرانيا 1986 الأثر الكبير فى لفت الأنظار إلى مشكل تلوث البيئة، فهذا الحادث الذى تجاوزت تداعياته دول الاتحاد السوفييتى سابقًا إلى باقى دول أوروبا، أكّد بما لا مجال للشك فيه، أن انتشار التلوث لا يراعى الحدود السياسية والجغرافية، وهو ما أسهم فى نقل الاهتمام بهذا المشكل من المختبرات العلمية إلى أروقة السياسات الدولية، كما أن تنامى التهديدات الناجمة عن الإرهاب والجرائم الرقمية، طرحت إشكالات أمنية خطرة على المستويات الوطنية والدولية، بعدما أصبحت تخلف خسائر جسيمة على عدة مستويات. وفى خضم هذه المتغيرات قام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة باعتماد مجموعة من القرارات غير المسبوقة، فى علاقة ذلك بالتدخل ل«حماية حقوق الإنسان»، و«دعم الديمقراطية» و«محاربة الإرهاب»، كما تعزّزت آليات المؤتمرات الدولية كسبيل لمحاصرة هذه المخاطر المنفلتة والآخذة فى التطور فى إطار من التعاون والتنسيق الدوليين. ورغم أهمية هذه الجهود فإن المنظومة الدولية لتدبير هذه التهديدات ما زالت بحاجة إلى تطوير أكثر فى عالم متعدد المخاطر. إدريس لكرينى جريدة الخليج الإماراتية