أضحى تحقيق السّلام العالمي مطلباً أكثر إلحاحاً في العقود الأخيرة التي تميزت بتنامي التحديات وتفاقم الصراعات، وظهور أسلحة أكثر فتكاً بالإنسانية؛ وببروز عدد من المخاطر الدولية التي تتجاوز في تداعياتها ومظاهرها وأبعادها حدود الدول؛ من قبيل تلوث البيئة، وندرة مصادر الطاقة والمياه، والجريمة المنظمة، والإرهاب الدولي بكل أشكاله، والتي ألقت بظلالها وتحدياتها وإشكالاتها على العالم برمّته. في أجواء من التحدي الذي رفعته دول العالم في مواجهة آفة الإرهاب والإصرار على مواجهته بكل الوسائل والسبل؛ انطلقت أشغال المؤتمر الدولي الحادي والعشرين لتغير المناخ بالعاصمة الفرنسية باريس بمشاركة دولية واسعة ووازنة بغية التوصل إلى اتفاق يضع المرتكزات الأساسية التي ينبغي بلورتها حتى حدود سنة 2020 لوقف الانعكاسات الخطرة التي يخلفها تغير المناخ. إن البيئة باعتبارها ذلك النظام الفيزيائي والبيولوجي الذي يشكل فضاء لحياة الإنسان وباقي الكائنات الحية والعناصر الطبيعية غير الحية، من ماء وهواء وتربة وما يحيط بهما؛ وبفعل ميل الإنسان إلى تطوير حياته ومحيطه، أصيب بأضرار جسيمة؛ نتيجة لتلوث الهواء أو الماء؛ بفعل نقل النفايات السامة، وما يخلفه أيضاً التطور الصناعي والتكنولوجي من ملوثات؛ ناهيك عن تنامي الحروب والمنازعات، وازدياد وتيرة قطع الأشجار، وعدم الترشيد في استغلال المياه؛ واستعمال الأسمدة الكيماوية الفلاحية بشكل مفرط؛ وانتشار المساكن غير اللائقة التي تفتقر إلى الشروط الصحية الضرورية (قنوات الصرف الصحي)... تزايد الاهتمام الدولي بقضايا البيئة مع بداية التسعينات من القرن المنصرم؛ وضمن هذا السياق؛ انعقد مؤتمر «ريو دي جانيرو» في الفترة الممتدة ما بين 3 و14 يونيو/حزيران عام 1992؛ حيث تميز بحضور دولي وشعبي مكثف ووازن (40 ألف شخص، 1200 منظمة دولية غير حكومية، 178 دولة، 130 رئيس دولة). ورغم أن هذا المؤتمر شكل منبراً للتراشق بالتهم المتبادلة بين دول الشمال ومثيلاتها في الجنوب حول المسؤولية عن هذا التلوث، إلّا أن أشغاله تمخضت عنها مجموعة من التوصيات والتدابير التي حاولت في مجملها التوفيق بين التنمية من جهة وحماية البيئة من جهة أخرى. وفي سنة 2002 انعقد مؤتمر «جوهانسبورغ» بجنوب إفريقيا؛ وشكّل محطة لتقييم حصيلة الجهود الدولية المبذولة في هذا الشأن؛ ومناسبة لدق ناقوس الخطر إزاء العديد من القضايا البيئية كتراجع المخزون السمكي، والتصحر؛ والتغيرات المناخية؛ وفقدان التنوع البيولوجي، حيث تم الاتفاق على اتخاذ مجموعة من التدابير الكفيلة بحماية البيئة في إطار من التعاون والتنسيق الدوليين. غير أن الممارسة الدولية أبرزت أن هذه الجهود وعلى أهميتها؛ تظل دون النتائج المطلوبة؛ بفعل عدم انضباط العديد من الدول، وعدم تنفيذ التزاماتها في هذا الخصوص. إن تلوث البيئة لا يعرف الحدود الجغرافية؛ وهو ما تبرزه التغيرات المناخية الملحوظة التي أصبح يشهدها العالم في السنوات الأخيرة، والتي تسببت في فيضانات وتصحر وجفاف وارتفاع لافت في درجات الحرارة. وتشير التقارير إلى أن ما يناهز 50 بالمئة من أنهار العالم أصبحت ملوثة بمواد صناعية وكيميائية سامة، فيما تعرضت غابات العالم لمزيد من القطع، وفقدت معظم الأراضي الزراعية خصوبتها؛ وازداد زحف الرمال بشكل مهول؛ وارتفعت درجة الحرارة بالأرض بشكل ملحوظ، ووقع العديد من الكوارث الطبيعية (أعاصير، وفيضانات...) والتي يعزوها العلماء إلى تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري التي تُسهم في توسع ثقب طبقة الأوزون. وتشير بعض الدراسات أيضاً إلى أن أكثر من نصف سكان العالم سيعانون نقصاً خطراً في المياه في غضون العقدين المقبلين. فيما حذرت تقارير صادرة عن برنامج الأممالمتحدة للبيئة من حجم التلوث الذي يمكن أن يطال البيئة والمناخ نتيجة العشوائية في الصناعات واستغلال الثروات الطبيعية، والذي يمكن أن يصل إلى حوالي 70 في المئة من سطح الكرة الأرضية؛ في حال ما لم يتم اتّخاذ التدابير اللازمة بشكل عاجل. وتبرز التوقعات أن المناخ العالمي مرشح للارتفاع في السنوات المقبلة، إذا لم تتخذ الإجراءات والتدابير الدولية الكفيلة بالحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وعقلنة استغلال الغابات واعتماد الاحتياطات الكفيلة باحترام البيئة في الصناعات؛ ومساعدة الدول الضعيفة في التغلب على مختلف المشاكل المطروحة في هذا الصدد. مع نهاية الحرب الباردة؛ التفت العالم إلى مخاطر غير عسكرية لا تقل في خطورتها وأهميتها عن النزاعات العسكرية كالأمراض الخطرة العابرة للحدود؛ وتلوث البيئة؛ والجريمة المنظمة والإرهاب؛ مما جعل مدلول السلم والأمن الدوليين يبدو في هذه المرحلة من تطور العلاقات الدولية أكثر توسعاً وشمولاً. والواقع أن ربح رهان السلم والأمن الدوليين يتطلب التعاطي الفعال مع مختلف المخاطر والتحديات التي تواجه الإنسانية جمعاء؛ في إطار من التعاون والتنسيق الدوليين. خصوصاً وأن العديد من الأبحاث والدراسات، ما تلبث أن تؤكد على هشاشة المقاربات الانفرادية في التعاطي مع ظواهر خطرة منفلتة وعابرة للحدود. إن التهويل من مخاطر التحديات التي تثيرها التطورات التي تلحق بالبيئة والمناخ لا ينطوي على رؤية تشاؤمية مبالغ فيها؛ بقدر ما يجسد نظرة موضوعية لواقع دولي يتأكد فيه يوماً بعد يوم، أن مواجهة تلوث البيئة وتغير المناخ لم تستأثر بعد باهتمام دولي حقيقي في مستوى التحديات المطروحة. يُجرى مؤتمر باريس في ظرفية دولية متميزة وحسّاسة؛ فانعقاده في هذه المرحلة الراهنة، وفي العاصمة الفرنسية التي تعرضت لعمليات إرهابية بشعة؛ وبحضور دولي مكثف؛ يشكّل رسالة دولية قوية قوامها التحدّي وعدم الخضوع للإرهاب، كما يعتبر مناسبة لانكباب الدول على تناول إحدى أهم الأولويات والمخاطر الدولية التي تتطلب اتخاذ مبادرات جماعية وجدّية. والواقع أن مثل هذه الأولويات والمخاطر الدولية التي لا يتنازع بشأنها اثنان؛ ينبغي أن تكون حافزاً نحو تذليل الخلافات الدولية ونبذ الصراعات؛ ومحفزاً على طلب السلام والحوار والتعاون خدمةً للأجيال المقبلة؛ وبخاصة أن هذه المخاطر آخذة في التطور والانتشار. نقلا عن صحيفة الخليج