ظلت فكرة النمو، لزمن مديد، تفرض نفسها فى الفكر الاقتصادى العالمى بما هى معتقده الرئيسى الذى يدور عليه ويهدف إليه. هكذا كان أمرها فى الغرب: لدى مفكريه الاقتصاديين وفى سياسات نخبه الاقتصادية ودوله، حيث ركن إلى الإيمان بها مدفوعا، فى ذلك، بنتائج خبرة تاريخية مكتنزة بكبير نجاحات فى هذا المضمار، وهكذا كان أمرها فى بلدان الجنوب، حيث ردد القول بها معظم الدارسين الاقتصاديين وسار فى اعتماد وصفاتها المقررة أكثر النخب السياسية الحاكمة. وما كان لهؤلاء وأولئك إلا أن يمعنوا فى الاندفاع وراء إغراء هذا المعتقد، فالعمل به عند بلدان الغرب غزير المنافع ومأمون العواقب، وليس من خيار بديل له عندها أو أوفر فائدة منه، وهو لدى أبناء الجنوب المعتقد الذى تشبعت به النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية الحاكمة فيها والمعارضة، المتعلمة فى جامعات الغرب ومعاهده العليا، والذى نصح به المستشارون الاقتصاديون الأجانب العاملون لدى دول الجنوب فصممت سياسات الدول فيه على منوال تلك التى طبقت فى دول الغرب وعول، التعويل الكبير، على أن تفضى إلى النتائج الاقتصادية والاجتماعية عينها التى حصدها تطبيق تلك السياسات فى موطنها الأوروبى والأمريكى الشمالى. لا يرتبط معتقد النمو بهذه الأيديولوجيا أو تلك وهذا النظام الاجتماعى الاقتصادى أو ذاك، وحين انقسم العالم إلى معسكرين ونظامين عالميين ثم إلى نموذجين متقابلين فى الاقتصاد والاجتماع، هما النموذج الليبرالى الرأسمالى والنموذج «الاشتراكى» (السوفييتى)، ظل المعتقد نفسه سائدا فيهما معا على ما بينهما من تباين. أثبتت تجارب البناء الاقتصادى فى العالم، التى كانت منصرفة إلى تحقيق هدف النمو المتسارع، أن بلوغ هذا النمو معدلات عالية لا يضع أرضية صلبة للتطور والتقدم فى أى بلد انتهج هذا السبيل، ذلك أن رفع مستوى الدخل القومى، والدخل الفردى استطرادا، لا يبنى قاعدة للتنمية المستمرة ولا هو يشمل بنتائجه مناحى الحياة كافة. بيان ذلك أن النمو لا يبقى، فى الغالب، على وتيرة تصاعدية واحدة ودائمة، فقد يتراجع أو ينتكس من فترة لأخرى، وبأثر من أى أزمة (اجتماعية، اقتصادية، سياسية...) مفاجئة أو معطيات جديدة طارئة، وذلك هو الغالب على معظم البلدان والاقتصادات حتى أكبرها وأكثرها تطورا، وما أكثر البلدان والاقتصادات التى تسارع نموها فى فترات سابقة (بريطانيا، فرنسا، اليابان...) ثم ما لبث أن تراجع إيقاعا ومعدلات وانتكس. إلى هذا المعنى النسبى للنمو يضاف أن الأخير يمس، على الأغلب، صعيدا واحدا هو الصعيد المادى (الاقتصادى) حصرا من دون سواه من الأصعدة الاجتماعية الأخرى، الأمر الذى ينشأ منه واقع كابح لعملية استدامة التطور لغياب شروطها الكلية. إن النمو يولد دينامية من التطور غير قابلة للإنكار، وهو لهذا السبب يوفر إمكانيات كثيرة ويجيب عن حاجات مادية تفرض نفسها على كل المجتمعات، غير أنه يظل تطورا غير متوازن ولا يفتح الباب، بالتالى، أمام مسار حقيقى للتنمية. ليس النمو، بهذا المعنى، أكثر من مظهر من مظاهر التنمية ونتيجة من نتائجها حين يسفر عن نفسه فى شكل تراكم مادى للقيم الاقتصادية، لكنه لا يصنع التنمية ألبتة. التنمية عملية من التراكم شاملة ومتكاملة تتناول، بالتطوير والبناء، مختلف أبنية المجتمع المادية واللامادية: الاقتصادية، الاجتماعية، التقانية، الثقافية، التعليمية، العلمية، البيئية.. الإنتاجية منها أو الخدمية أو الإنسانية.. إلخ، وليس جانبا واحدا منها. عبد الإله بلقزيز جريدة الخليج الإماراتية النص الأصلى: https://tinyurl.com/3r6dzx2v