كان ذلك قبل سنوات قليلة، فى الأسابيع الأولى لتحول الكورونا إلى وباء كونى. وربما فى ما يقرب من الذكرى الخمسينية للمرة الأولى التى أقدم فيها مارسيل خليفة على موسقة أولى قصائد محمود درويش التى أطلقته فى عالم الغناء السياسى على خطى الشيخ إمام فى مصر والعديد من كبار ممارسى ذلك الغناء فى العالم العربى. فى تلك الأيام حدث للموسيقى اللبنانى ذى الشعر الأبيض الكثيف الآن، أن وصل إلى أستراليا ليزور واحدا من ولديه يعيش هناك. كانت زيارة عائلية لبضعة أيام. لكنها ستطول عاما ونيف والسبب؟ إغلاق المطارات واستحالة التنقل والسفر بسبب استشراء الوباء. فى الأحوال العادية ما الذى يمكن للمرء أن يفعله فى مثل تلك الحال؟ أشياء كثيرة بالطبع إلى جانب القلق والمحاولات اليائسة لإيجاد طريقة للعودة من آخر العالم واستئناف الحياة المعتادة. لكن مارسيل اكتفى للوهلة الأولى بالجلوس هادئا وسط طبيعة خلابة تحيط به وراح يقرأ صفحات عثر عليها بين أوراقه، صفحات من قصيدة طويلة لمحمود درويش ربما هى أطول قصائد الشاعر الفلسطينى الكبير على الإطلاق وتحمل عنوانا كان هو ما استفز الموسيقى الذى كان شعر محمود دريش يستفزه للتأمل والتفكير و... العمل دائما. وهكذا، ودون أن يغرق فى تفكير طويل اتخذ قراره بأن تكون «الجدارية» الدرويشية عمله الموسيقى المقبل. قال فى نفسه «لقد حان الوقت للعودة إلى هواى الشعرى الأول. وبى شوق حقيقى لشعر ذاك الذى ارتبط اسمى به طويلا». ونعرف أن هذا الارتباط يعود إلى بدايات سنوات السبعين. ففى الأعوام الأولى من ذلك العقد المبارك فى تاريخ الإبداع العربى، لا سيما فى لبنان. وكنت عائدا لتوى من إيطاليا حيث كنت أعيش وأدرس السينما وأناضل فى تنظيم «المانيفستو» اليسارى، لفتت نظرى فى لبنان نشاطات إبداعية فى شتى المجالات يدور معظمها من حول النضال اللبنانى – الفلسطينى المشترك ولا سيما فى بيئة الحزب الشيوعى اللبنانى، الذى كان يستعد للاحتفال بخمسينياته التى شكلت يومها علامة فارقة فى تاريخ نضالات الشبيبة اللبنانية. باختصار جمعت يومها توجهاتى النضالية والفكرية وتوافقت مع القائد الشيوعى الكبير كريم مروة على تشكيل هيئة فنية تستوعب النضالات الموسيقية والمسرحية والتشكيلية والسينمائية لتواكب تطلعاتنا.. وحققت الفرقة من النجاح ما جعل كثيرا من المبدعين الشبان ينضمون إليها. وبسرعة سيكون مارسيل خليفة واحدا من المنضمين بإيعاز من مروة. كنت أعرفه سابقا كأستاذ للموسيقى ومحكم فى برامج هواة تليفزيونية لكن ليس كمناضل سياسى. ومن ثم كانت مفاجأتى حين أخبرنى مروة أن خليفة وصل من باريس ومعه نسخة لى من أول أسطوانة كبيرة – صدرت حينها عن سلسلة «غناء العالم» المرموقة الفرنسية - ستكون «عربون» انضمامه إلى فرقتى. ثم كانت مفاجأتى أكبر حين جاءت الأسطوانة فإذا بأغنياتها ذات الألحان التى لا تزال حية وبديعة حتى اليوم، بعد ذلك بنحو نصف قرن، تعتمد أشعار محمود درويش، من خلال قصائد مثل «وعود من العاصفة» و«أحن إلى خبز أمى» و«جواز سفر» وغيرها. عندما وصل مارسيل إلى بيتى ليقدم «طلب انتسابه» إلى الفرقة وفى صحبته رفاق له سيتجمعون لاحقا فى فرقته الموسيقية «الميادين»، ناولنى أسطوانته بكل حياء وود... ولم أكن أتوقع أن تكون تلك اللحظة بداية صداقة طويلة، وتلك الأسطوانة بداية مشروع غنائى سأكتشف أنه سيقسم المستمعين بين أذكياء وأناس أقل ذكاءً، وسيصل قبل أيام قليلة خلال التقائنا مارسيل وأنا فى مدينة لاهاى فى هولندا حيث اشتركنا فى تكريم السينمائى العراقى انتشال التميمى، أولا إلى عشرات المرات كنا نتمشى فيها معا فيوقفنا مارة كثر طالبون من مارسيل أن يتصوروا معه، وثانيا إلى مشهد كنت قد نسيته منذ عقود: مشهد مارسيل وهو فى الصالة حيث كان يكرم هو الآخر فلا يتحدث إلا عن غزة وفلسطين، ثم ذات لحظة وفى تصرف أقلقنى على مارسيل نفسه، يوجه الميكروفون ناحية صالة تغص بجمهور متحمس ومن كل الأعمار والجنسيات العربية وغير العربية صارخا «منتصب القامة» فإذا، وسط ذهولى واعتقادى أن الجمهور لن يستجيب، يصرخ الجمهور كله مكملا بصوت واحد»… أمشى ومارسيل يشارك بكل ثقة لتتحول الجلسة الهولندية إلى عاصفة جعلتنى أدمدم: «أين أنت يا محمود درويش لترى ما يحدث» متذكرا أننى فى مقال لى عن الشاعر الكبير الراحل قبل سنوات، ذكرت أنه لم يكن يحب «الأغنية السياسية» معتبرا إياها «فنا ضد الشعر» مفضلا على أصوات مغنيها صوتى فايزة أحمد وشادية (!) فأين هو الآن ليرى ما أرى؟ بل أين هو، فى اليوم التالى حين حدثنى مارسيل ونحن نتجول فى أزقة لاهاى الهولندية عن.. مشروعه الجديد، عن «الجدارية» فيما يتقاطع حديثه مع ابتسامات وتحيات مارة مغاربة وتونسيين وعراقيين يطلبون توقيعه ويحيونه بحرارة؟ وأنا بصراحة ما كنت متوقعا لا هذا ولا ذاك. بل كنت من الذين يعتقدون بأن ظاهرة مارسيل خليفة، ودائما ما اعتبرتها مجرد «ظاهرة» رغم احترامى المعلن والشديد لأبعادها الفنية والجهود الإبداعية التى لا بد للمرء أن يكون فاقد البصر كى لا يلتقطها كأعمال فنية. لكنى كنت أرى أن الفن استمرارية وتجديد وتفاعل طالما كان الفنان مقيما بيننا مواصلا إنتاجه، فما بال مارسيل خليفة وقد اكتفى بما لحن وغنى لمحمود درويش وغيره قبل نحو أربعين أو ثلاثين عاما من الآن ليعيش على أمجاد صحيح أنها كبيرة، لكن الشعور الدائم كان أنها ستفقد صلاحيتها مع الأيام، بل فقدتها بالفعل بشهادة درويش نفسه. ما يدفع إلى الاستنتاج بأن مارسيل خليفة إنما «يبشر الآن بين مؤمنين» يتضاءل عددهم كما تتضاءل جغرافية حضورهم يوما بعد يوم. بل الأدهى من هذا وبالاستناد فى الآونة الأخيرة إلى الهبوط الكبير، فى السجالات العربية العامة، عبر وسائل التواصل الاجتماعى وتحديدا حول ما حدث فى غزة، للخطاب المتخلف العام المتبادل فى أوساطنا، رغم كل الإيمان الأوروبى والعالمى ب«قضيتنا» والذى تعبر عنه يوميا شاشات الهواتف النقالة، الأدهى من هذا أن كثرا منا، وهذه «الكثر» تشمل كاتب هذه السطور بالتأكيد، لم يعودوا يرون من الميدالية سوى جانبها الأكثر سلبية. ومع ذلك ها هو المشهد يتبدل فى أمسية هولندية تدفع إلى التساؤل: من أين يأتى هذا الفنان المبدع بكل هذا الإيمان وكل هذه الطاقة؟ أما هو فيخبرك كالهامس بلطفه الغامر وبساطته المطلقة أنه، بفضل «أشهر الكورونا الطويلة، ثم بفضل صديق له فى لندن عرف كيف يوصل إليه فى «آخر العالم» مئات الصفحات التى تضم «جدارية» محمود دروش كاملة ليعود عبر ألحانها ليس فقط إلى شبابه الموسيقى، بل إلى محمود درويش وهواه الإبداعى الكبير الذى كان قد أوصله إلى ما أعتقد أنه ذروته الفنية عبر تلحين مغناة «أحمد الزعتر» تحفة درويش الشعرية، ولكن ها هو اليوم فى طريقه لتجاوزها عبر تلحين «الجدارية» وتكون المفاجأة الجديدة هنا حين تسأله: ومتى ستنجزها فيقول ببساطته الرسولية: لقد أنجزتها بالفعل لكنى أنتظر فرصة لتقديمها فى عرض مسرحى فنى كبير ينتمى إلى الفن الشامل وفى إنتاج ليس لى أنا قدرة على القيام به وحدى. إذا؟ هذه ال(إذا) لا شك سنعود إليها فى قسم ثان وأخير من هذا «المقال/ التحية» للصديق القديم الذى لا ييأس و«لا يهرب من واجبه الفنى» كما كان الراحل كريم مروة يقول لى، كلما كنت أسأله خلال العقود السابقة عن آخر أخبار مارسيل خليفة!