السيرة النبوية من مكوناتى المعرفية وحاضرة معى طوال الوقت قناعات راسخة بضرورة احترام القارئ، أفكار براقة تؤمن بإعمال العقل سبيلا إلى تطوير الثقافة العربية والإسلامية، مع سعى دائم لإدراك المعانى والقيم من التراث دون التورط فى معارك جدلية، ذلك هو رصيد ومسلك الكاتب أحمد الدرينى، الذى يستعرض فى حواره مع «الشروق»، رؤيته الخاصة لمشروعه الأحدث «الحبيب.. زيارة جديدة للسيرة النبوية». يقر الكاتب بأنه لم يسلك فى كتابه الصادر عن «دار الشروق»، درب التفكيك الجدلى أو المناكفة الفكرية كما يفعل البعض، بل دخل إلى السيرة بعيون محبة، ساعيًا لتقديمها بجلال وسكينة، بعيدًا عن التشويش الذى تسببه الجماعات المتطرفة والقراءات العدائية. يتوقف عند تطور التناول التاريخى للسيرة، مبرزًا كيف عالجها كتّاب بارزون كالعقاد وطه حسين والشرقاوى من زواياهم الخاصة، ويرى أن لكل عصر لغته ومشروعه، وأن السيرة لم تغب، لكنها تظهر اليوم وسط غبار المعارك لا فى هدوء التأمل، ولا يراها غائبة بقدر ما هى مطروحة بشكل مختلف. فى كتابك الأحدث «الحبيب.. زيارة جديدة للسيرة النبوية»، تعود للسيرة النبوية، ولكن من زاوية معاصرة.. ما الذى دفعك للعودة إلى السيرة الآن؟ السيرة النبوية المشرفة حاضرة معى طوال الوقت، وتعتمل فى الظلال الخلفية لشخصيتى بلا توقف، فهى مكون من مكوناتى المعرفية ومصدر إلهامى الأكبر. وهى محل استدعاء لا ينتهى فى المجال العام منذ ثورات الربيع العربى وما تلاها من جدل حول حركات الإسلام السياسى والجماعات الإرهابية وسلوكياتها وتجاربها ومشروعاتها. ولا تنس هجمات الحادى عشر من سبتمبر بالطبع قبل نحو ربع قرن واستدعاءها لمسائل التراث الإسلامى ومفاهيمه تحت الميكروسكوب فى العالم كله وليس فى الشرق الأوسط فقط. فالسيرة النبوية رافد معرفى وجدانى لكل مسلم، ثم هى عنصر فاعل بحسن توظيفها أو بسوء فهمها فى المجال العام فى الشرق الأوسط منذ وعيت على الدنيا! ثم، كصحفى وأديب، يصعب أن تقاوم إغواء إعادة كتابة وتقديم هذه «القصة» البديعة الآسرة المبهرة. لذا فلنقل إن سبب الكتابة فى السيرة هو محبة صاحبها صلى الله عليه وسلم أولا، ثم محاولة تقديم فصول منها بجلال وسكينة ومحبة بعيدا عن الغبار المستدعى والمثار حولها بسبب الجماعات الإرهابية وبسبب مقولات الإسلام السياسى وجراء فوضى إثارة موضوعاتها التى تتناولها بعض وسائل الإعلام وبعض الفاعلين على طريقة حروب العصابات فى الكر والفر! كيف ترى تطور كتابة السيرة النبوية بين الكُتّاب القدامى والمعاصرين؟ وما الذى تغيّر فى منظور التناول؟ محاولات تدوين وكتابة وتنقيح السيرة النبوية مرت بعدة أطوار على مدار قرون. فقد فطن المسلمون الأوائل لأهميتها ولمركزيتها ولتتميمها لشرح الديانة بعد القرآن الكريم ولإيصال مقاصدها. ولما استقر الجمع والتدوين والاستيثاق، ظهر التفنن فى تبويبها واستنباط المعانى من ثناياها، وتخطت دورها التشريعى والفقهى والتاريخى لتتحول إلى مساحة وله وتيم بالجناب النبوى المشرف، وتكاد تمثل فى حد ذاتها معجزة جنبا إلى جنب الوحى الشريف. فالسلوك المحمدى كان ولا يزال آسرا ومبهرا إلى حد لا يوصف. أما على مستوى القرن الفائت، فكان طبيعيا مع شيوع الثقافة والطباعة ومع انتشار الصحف ووسائل الإعلام أن يعالج كل من العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ومن قبلهم محمد حسين هيكل مسألة السيرة النبوية، ثم يتوالى عليها آخرون مثل خالد محمد خالد وعبد الرحمن الشرقاوى وغيرهم.. فهى أولا رافد ضخم جدا فى ثقافة أى مثقف فى ذلك الوقت، حيث كان الإلمام التراثى بأهم حدث فى تاريخ العرب، وهو الإسلام، ملمحا جليا فى الجميع. لذا داخل كل منهم السيرة وعالجها بثقافته وبمنظوره ومن واقع همومه وربما فى إطار مشروعه المعرفى وفى ظل نزوعه الشخصى، فالعقاد بألقه الذهنى استرعى انتباهه بريق السلوك المحمدى وفذاذته، فى حين كان الشرقاوى يقرأ السيرة بعيون اشتراكية بعض الشىء، بينما انصب تركيز طه حسين على البحث عن هذا الذى يرى أنه مختبئ بين تلال التفاصيل الكثيرة والمرويات التى لا تنتهى.. علينا أن ندرك أن السيرة النبوية الجليلة اجتذبت كل هذه العقول النابهة، لما تنطوى عليه من ملحمية ووفرة فى المعطيات والأحداث والشخصيات والدروس. ولما تمنحه من لمن يبحر فيها من عطية لا يستطيع مقاومتها! نلاحظ تراجعًا فى الإقبال على كتابة السيرة النبوية فى وقتنا الحالى مقارنةً بالعصور السابقة، كيف تفسر هذا الغياب؟ لا أستطيع الجزم بمثل هذه الملاحظة اتفاقا أو اختلافا، فهناك روايات أدبية ضمن الأكثر مبيعا فى هذه الأيام موضوعاتها متداخلة مع السيرة النبوية ما لم تكن نابعة منها. والسيرة نفسها حاضرة بقوة لكن للأسف تحت ظلال المعارك بين دعاة الإسلام السياسى وخصومهم، لذا فهو حضور وسط غبار، لا الحضور الهادئ اللائق بجلالها وجمالها. فلا يمكن القول إن هناك إقبالا أو إن هناك إحجاما. المسألة أنها فقط لم تعد مطروحة على شاكلتها التى كانت عليها فى عقود سابقة وفى وقت كانت همومه ونبرته وأولويات مفكريه وثقافة كتابه مختلفة. استخدمت فى الكتاب لغة تراثية ذات طابع إسلامى واضح، هل كان هذا اختيارًا متعمدًا؟ وهل لم تخشَ أن تكون اللغة عائقًا أمام بعض القراء؟ هذا السؤال مربك بعض الشىء إذ قد ينطوى على مدح أو قدح لا أدرى.. لكن التعليق الذى تكرر من قراء كثيرين هو أن من يقرأ الكتاب سيدرك أن فلانا هو كاتبه وليس سواه. ربما كانت لغته تراثية لكن مفهومة غير متكلفة ومدموجة فى لغة حداثية بعض الشىء، وربما كانت لغتى من الأساس حتى حين أكتب فى السياسة والأدب هى لغة تراثية أو بها ملمح تراثى. لكن القصد الأكبر أن تكون اللغة مفهومة وممتعة لقارئها، ولو توقف القارئ إزاء بعض المفردات أو التعبيرات، فعليه أن يبحث عنها، فالمعرفة لا تقدم على طبق من ذهب، وجميعنا توقفنا فى بواكير قراءاتنا مع ألفاظ ومفاهيم لم نستوعبها جيدا سوى بمزيد من البحث والسؤال، ومازال هذا دأب كل متعلم وقارئ جاد إلى الآن. لكن الأكيد أن الكتاب رشد الكثير من التعبيرات التراثية التى قد لا تكون مفهومة ومطروقة لقارئ اليوم الذى تتراجع حصة «التراثى» إلى «الحداثى» فى مكوناته المعرفية، نظرا لتراجعها فى المكون المعرفى لمن يقرأ لهم من كتاب أيضا. الخلاصة، أزعم أن اللغة كانت مفهومة، وإذا استدعت شيئا من جهد فهو مسألة طبيعية فى أى حقل معرفى متخصص وما يستتبعه من بحث بديهى فى مصطلحاته ولغته الخاصة. يظهر فى كتابك حضور واضح لنبرة المحبة والتقدير فى تناولك للسيرة، هل فكرت يومًا فى الاقتراب من السيرة بمنظور أكثر جدلية أو تفكيكا مثلًا؟ دخلت إلى السيرة وكتابتها بعيون محبة، والمحبة لا تعنى إغفال الفكرة ولا التعامى عن التقاط المعنى، ولا تعنى إجبار الذهن على العمل والتوقد. المحبة مسألة عاقلة جدا وليست شعورا أعمى منساقا. وإلا لتحول المكتوب إلى قصيدة ركيكة لا تجتذب قارئا واحدا. لكنك لو كنت تقصد بالجدلية أو التفكيك هو مساءلة أحداث السيرة والتشكيك فى مصادرها أو محاولة التصادم مع طرح فقهى بعينه أو نسق دينى ككل، والمشاكسة والسعى للصدام مع المستقر، فهذا ليس أنا وليس اختيارى. لقد قام كثيرون بهذا من قبل، بحسن نية وبسوء نية، بمعرفة وبجهل، بنتائج تستدعى التأمل وبهراء لا يستحق التعليق، بتساؤلات إيمانية وبتطرفات إرهابية وبمراوغات إلحادية. كل شىء حدث. والجميع )هم وأنا (نحتمى بأننا نحاول محاولات معرفية، يحكم القراء على جديتها من عدمه، ويستشعر الناس الصدق من الاستعراض بخصوصها، والعقل من الخبل فيها. فالكتابة تستدعى القراءة، والتفاعل فى اتجاهين. لك باع طويل فى تناول قضايا الإسلام السياسى، كيف ترى الفرق بين هذا النوع من الكتابة، والكتابة فى السيرة النبوية التى تحمل طابعًا وجدانيًا؟ الإسلام السياسى لاهب وملآن بالشغب والكتابة فيه والقراءة عنه تصيب بفرط الحركة إن جاز التعبير. فهو ينطلق من وجود فريضة غائبة «الجهاد» وأصل غائب أو متعامٍ عنه «الخلافة»، وشرع لا يُطبق.. فهو أول ما يخاطبك يقتحمك ويشعرك أن ثمة مصيبة كبيرة وثمة خطأ كبير وأن هناك أجيالا كاملة فرطت فى الإسلام.. هذا طرح صدامى ومزايد ومشتت «بالكسر والفتح». ويستدعى بلا ضابط منهجى حقيقى أشتات وقائع ومجتزءات من أحداث ليسوق فكرته ويدلل عليها، وهو من البداية يخيرك أن تكون معنا «الفرقة الناجية» أو تكون مع الآخرين من أهلك وأسلافك وأصدقائك الذين ضيعوا الإسلام! بينما السيرة النبوية كلها سكينة وجلال وهدوء حتى فى أكثر لحظاتها شجنا. وهى نبع وقار صاف، ومساحة عقل ثاقب وطبع رحيم، مهما تباينت الأحداث فيها. وستخلص منها إلى سلام وحكمة أيا كان القرن الذى أنت فيه والظرف الذى تحيا فى ظلاله. تنقلت بين منصات كثيرة: من الصحافة المكتوبة، إلى القصة القصيرة، إلى البرامج التلفزيونية، والوثائقيات بعد ذلك، كيف تصنف نفسك الآن؟ لست مشغولا بتصنيف نفسى بقدر ما أنشغل بجودة ما أقدمه. تشغلنى القيمة عن التصنيف أو عن وجود مسار واضح أنتهجه بمفرده لأريكم نتائج بعينها وأحصد حصادها عند نقطة بعينها. أنا أفعل ما أحب وحسب. وأنا كل ما سبق) الصحفى ومقدم البرامج وصانع القنوات وكاتب القصة القصيرة والكاتب فى السيرة النبوية (متآلفون ويستفيدون من بعضهم البعض!). هل تنوى استكمال مشروع السيرة النبوية فى كتب لاحقة؟ أتمنى هذا بكل جوارحى، وأرجو أن تطاوعنى الظروف فى هذا.