الناقدة اعتدال عثمان تتبع في كتابها "عين الكتابة" الظواهر الإبداعية التي مثلت تيمة فارقة في أعمال بعض الكتاب على نحو ما فعلت مع يوسف إدريس. إن كتاب السرد على اختلاف انتماءاتهم وعلى تنوع حقول كتابتهم من الرواية والقصة القصيرة وغيرهما من فنون السرد، يحاولون غالبا الغوص في مجتمعاتهم وفي ذواتهم بنصوصهم، التي تلعب دور المرايا متعددة الأوجه، لذا فإن العوالم السردية لأي كاتب مثقلة بالضرورة بتفاصيل لا نجدها في صنوف كتابية أخرى غير السرد. تنحا الناقدة اعتدال عثمان في كتابها الجديد “عين الكتابة: قراءة في تحولات السرد” منحى نقديّا يستبصر ما في النصوص من جماليات ورؤى، وكيفية استكناه هذه الجماليات داخل النصوص، فلا تتعالى في قراءتها للنصوص المختارة التي شملت إدوار الخراط وإبراهيم أصلان ويوسف إدريس ومحمد البساطي وإلياس خوري وفتحي إمبابي والطيب صالح ورضا البهات ومحمود الورداني وغيرهم، وإنما تنطلق من المشاريع الإبداعية للكاتب لتقدم رؤية عامة وشاملة لإبداعه. فلا تتوقف عند نصوص منفردة فقط، وإنما تقرأ النتاج الكلي باحثة عن الرؤية الإبداعية والتقنيات الجمالية معا. البحث عن جماليات الكتاب، الصادر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة كتابات نقدية، احتوى على خمسة فصول، اتخذ كل فصل منها توبيبا مستقلا ما بين الرؤية الشمولية لنتاج الكاتب على نحو ما فعلت مع إدوار الخراط وإبراهيم أصلان وإلياس خوري، وتتبع الظواهر الإبداعية التي مثلت تيمة فارقة في أعمال بعض الكتاب على نحو ما فعلت مع يوسف إدريس، حيث ركزت على البطل بين الاغتراب والانتماء من خلال قراءتها لرويتي إدريس البيضاء وقصة حب، أو تجليات صورة الذات والآخر على مرايا التاريخ والواقع عبر قراءتها لنصوص بهاء طاهر القصصية والروائية، وكذلك التحولات في العالم الروائي والقصصي ليوسف أبورية، وما بين الرؤى الإبداعية والملامح الجمالية لدى كتابات فتحي غانم ومحمد البساطي ومحمود الورداني وفتحي إمبابي ورضا البهات. وحظيت القصة القصيرة، هي الأخرى، بقراءات متنوعة سواء على سبيل الاستدعاء عندما ناقشت الرؤى الكلية لدى الكتاب، أو عبر قراءات مستقلة كما فعلت في “ترابها زعفران” لإدوار الخراط، و”ذهبت إلى شلال” لبهاء طاهر و”منحنى النهر” لمحمد البساطي و”يوم مبارك على شاطئ أم باب” للطيب صالح، ثم جاء الفصل الأخير ليقف على جنس القصة القصيرة جدا، راصدة التحولات في السرد، عبر مناقشتها الإشكاليات التي صاحبت المصطلح، وعلاقة هذا الجنس بالتراث العربي من ناحية وعلاقته بتحولات العصر من ناحية ثانية، حيث اعتبرها الباحثون التجلي الأحدث لمفاهيم الحياة المعاصرة في عصر السرعة واكتساح التكنولوجيا عبر شبكات النت، والأهم تقنيات وخصائص هذا الجنس وجمالياته. تستخلص الناقدة من خلال قراءتها لمجمل أعمال الكتاب الملمح الجمالي المميز لكل واحد منهم، فترى أن الكتابة لدى إدوار الخراط “بحث وتنقيب في طبقات ثقافية، متراتبة ومتداخلة، تراثية ومعاصرة، تشتمل على العمق الحضاري الفرعوني والقبطي والإسلامي”. كما أنها تشير إلى إحدى الخصائص المميزة لعالم الخراط، حيث المادة الأولية لهذا العالم مستمدة من تجارب الكاتب المعيشة. أما إبراهيم أصلان فهو بمثابة عين الرائي البصير، والكتابة عنده تبدو كتابة عفوية بسيطة راصدة للتفاصيل اليومية بصورة محايدة وعابرة، وإن كانت كتابة مراوغة، لا يحمل السطح منها إلا النزر اليسير الذي يخفي وراءه رحلة طويلة من الجهد المضني. كما أن الكتابة عنده مقتصدة لا تعرف الإطناب أو الثرثرة السردية الفارغة. أما إلياس خوري فالكتابة لديه تكشف عن توتر إبداعي خلّاق وعن محاولة دائبة للانفلات عن الشكل الكلاسيكي للرواية الذي لم يعد ملبيا لتعقد رؤية الإنسان المعاصر، ولا كافيا لاحتواء الواقع المعبر عنه والذي لا يقل تعقيدا وتشابكا، وهذا ما كان دافعه إلى أن يلجأ إلى ابتكار أشكال روائية مركبة تنقل خصوصية التجربة اللبنانية، خصوصا تجربة الحرب الأهلية بكثافتها وعمقها وحجم المعاناة فيها. وعن ظاهرة الاغتراب وأزمة البطل تتخذ الناقدة من روايتي يوسف إدريس: البيضاء وقصة حب، مثالين تستبصر بهما أزمة البطل الموازية لأزمة المثقف العربي في البحث عن قيم حقيقية تتيح له مجاوزة حالة الاغتراب عن طريق التوحد بالآخر في الحب، ورأب الصدع بين الداخل والخارج، ومن ثم الاندماج في الجماعة والمشاركة في صنع مستقبلها من خلال العمل الثوري، وهو القيمة التي تضفي على الحياة مغزاها. الذات المرآة وفي إطار البحث عن علاقة الذات بالآخر في أعمال بهاء طاهر، تحفر الناقدة في التاريخ مستجلية صورا وتمثيلات عن هذه العلاقة، عبر مرويات عربية تناولت هذا الصراع، ويتخذ بهاء طاهر الواقع الاجتماعي المعاصر أو التاريخي القريب مصدرا لمادة الكتابة، وإن كان يجعل لهذا الواقع امتدادا في العمق الإنساني. وإجمالا تتميز معالجة بهاء طاهر لهذه الإشكالية بطرح هموم الوطن ممزوجة بتجربة العلاقة الإشكالية مع الآخر، وإن كانت مع الأسف تنبني هذه العلاقة على تصورات وهمية وهو ما ينتهي بنهاية مأساوية. في رواية “الحب في المنفى” كان البحث عن الذات ومساءلتها، ظل هاجسا مسيطرا ومتوترا بالسؤال. أما في روايته “واحة الغروب” فإن البحث عن حقيقة الذات ومحاكمتها يتخذ شكلا مأساويا يقترب من بنية التراجيديا اليونانية. في دراسة التحولات في العالم الروائي والقصصي ليوسف أبورية، ترى الناقدة أن البحث عن البنية الاجتماعية الموازية للنص يقتضي الخروج من عالم النص الفني إلى نصوص تنتمي إلى مجالات معرفية أخرى، ثم العودة إلى النص الروائي من أجل اختبار التفاعل الذي يمكن أن يتم داخل النص. تكاد هذه الرؤية تلخص المنهج الذي سارت عليه الناقدة في مجمل دراساتها وإن جاء متأخرا عرضه وتوضيحه، فهي دوما تنطلق من داخل النص إلى خارجه ثم العودة مرة ثانية إلى الداخل من جديد. هذا المنهج جعلها تستدعي في دراستها عن الذات والآخر النصوص الأولى التي تطرقت إلى هذه الإشكالية بدءا من رفاعة رافع الطهطاوي في تخليص الإبريز وصولا إلى موسم الهجرة إلى الشمال 1966. وفي دراستها عن يوسف أبورية تستدعي شخصية مصر لجمال حمدان خصوصا تناوله الثوابت الجغرافية والمتغيرات التاريخية، وبالمثل يونان لبيب رزق ومقالته عن الثوابت من منظور تاريخي. " الكتاب يقدّم قراءات نقدية مهمة عبر آليات وتقنيات منهجية محكمة دون طغيان المصطلحات الأدبية المرهقة على النص" وفي فصل مستقل بعنوان “صور مقربة”، تتخذ اعتدال عثمان من أحد أعمال الكاتب كفتحي غانم ومحمد البساطي ومحمود الورداني وفتحي إمبابي ورضا البهات، منطلقا لتقديم رؤية ولو أشبه بنظرة طائر عن عالم الكاتب الروائي، كمدخل لقراءة العمل ذاته. فعالم فتحي غانم وثيق الصلة بخبرته الواسعة وتجربته الطويلة في عالم الصحافة، إذ تتراسل موهبة فتحي غانم في مجال الكتابة الروائية والصحافية لتجعل هذا العالم حافلا بالتنوّع، مستوعبا الأحداث السياسية الفارقة التي شكّلت تاريخ مصر المعاصر، وتحولات الواقع وأزماته، وأسئلة الوجود البشري حول العدل والخير والشر والحب، وجدل الذات مع واقعها في زمن الأحلام وتبدد الأوهام، وصراع الأجيال، فضلا عن الإنصات إلى حوار العصر وما يموج به من رؤى وأفكار وتناقضات، كما غلب على أسلوبه الإيقاع السريع النابض بالحياة. أما محمد البساطي فينحاز للمكان، حيث يعيد الكاتب وعلى الأخص في عمله القصير “صخب البحيرة” تركيب العناصر والمفردات المكوّنة للقص، على نحو يجعل المكان بؤرة للرواية، والعمق التاريخي امتدادا له، فهي تجعل الناس يحفظون ذاكرتهم الجماعية، وكيف يبدعون أشكال التواصل والفن الجميل. الكتاب يقدّم قراءات نقدية مهمة، عبر آليات وتقنيات منهجية محكمة، دون طغيان المصطلحات الأدبية المرهقة على النص، بل على العكس تماما فهي مدغمة في التحليل، راصدة لجماليات البناء في النصوص، ورؤى العالم. فصارت هذه القراءات بلغتها السهلة والعميقة نصوصا موازية أضاءت النص، وأعطت له دلالته الأعمق التي يرمي إليها الكاتب، كاشفة عن خبرة جمالية ومعرفية لدى الناقدة.