القصف المستمر يستهدف الوجود الفلسطيني وإخفاء ملامحه المواجهة مستمرة حتى ينال الشعب حريته المواجهة مفتوحة ونخوضها بكل الوسائل وتعظيم دور الثقافة الفلسطينية ثقافة الاحتلال الدمار والموت وقتل الأطفال ولا شيء آخر
بين أصوات المدافع وهدير القصف وأزيز الطائرات.. وسط نزيف الدماء الذي لا يتوقف وارتقاء عشرات الشهداء كل يوم.. يبقى صوت المقاومة على الأراضي الفلسطينية وفي قطاع غزة، صوتًا متفردًا ولحنا متنوعًا تعزفه جميع الآلات، عبر البشر الذين قالوا للعالم كله "لن نستسلم"، وترجموا رسالتهم هذه في صور شتى، أبرزها تحدي الظروف القاسية من تدمير المنازل للتهجير والنزوح، باستمرارهم في معانقة الحياة الفلسطينية كما يعرفونها رجالا ونساء وأطفالا. كما ارتدت الأنشطة الأخرى في تلك الحياة، ثوب المقاومة الفضفاض، لتحلق به إلى الحلم الراسخ، ومنها أنشطة وزارة الثقافة التي يعي مسئولوها حجم وأهمية هذا النوع من المقاومة، التي تُبقي الحياة في مجراها الوطني، عبر الفعاليات المختلفة والاحتفاء بالمبدعين في المجالات شتى، والدفاع بالكلمة والوعي عن مقدرات الوطن وإرثه الثقافي الذي توحش الاحتلال في تدميره مثلما اعتاد آلة القتل اليومية، وهو ما يشير إليه الدكتور عماد حمدان وزير الثقافة الفلسطينية، الذي تسلم شعلة العمل الثقافي ليواصل مع الأجيال من المبدعين والمثقفين مواصلة رحلة الصمود والمقاومة من أجل ترسيخ بقاء الوطن الأبدي فلسطين. الوزير عماد حمدان الذي أجرينا معه هذا الحوار ، في أول حوار له بعد توليه مسئولية وزارة الثقافة الفلسطينية، للوقوف على المشهد الثقافي الفلسطيني في ظل استمرار حرب الإبادة الممنهجة والمدعومة بالمال والسلاح، له تاريخ من العمل الأكاديمي والثقافي والاجتماعي، فقد حصل على شهادة البكالوريوس من كلية إدارة الأعمال بجامعة، ودرجة الماجستير في التنمية المستدامة وبناء المؤسسات، كما حصل على شهادات عديدة من جامعات مهمة كجامعة أوكسفورد البريطانية، وعمل حمدان محاضرا في جامعات محلية، ومديرا عاما للجنة إعمار الخليل، وكذلك عمل مديرا لبرنامج إحياء البلدات التاريخية مع وكالة التعاون البلجيكية BTC، وهو عضو اللجنة الوطنية للمواقع التاريخية العالمية، وعضو اللجنة الوطنية للتراث المادي واللامادي، وقد حدثنا عن الموقف الحالي للتراث الفلسطيني واستهدافه من قبل المحتل الذي يسعى لطمس الهوية الفلسطينية، وأدوارهم كمثقفين للدفاع عن هذا الإرث.. فإلى نص الحوار
صمود سكان غزّة رغم الإبادة الجماعية والتدمير الرّهيب يطرح أسئلة التاريخ والهوية والثقافة ماذا وراء هذا الصّمود؟ إن ما تشهده فلسطين في هذه اللحظات الحاسمة، هو استمرار لنكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، وطرح الأسئلة في هذا السّياق يأتي ضمن حالة من البناء والهدم على طول تلك السنوات، فالحالة الفلسطينية كانت تصعد وتهبط بفعل الظروف التي تحيط بالنضال الفلسطيني، لذلك فإن مسألة الهوية والثقافة والتاريخ هي دائما حاضرة، وهي أيضاً تشكّل إطاراً متماسكاً يدفع بالفلسطينيين نحو مقاومة التهديدات التي لا تهدأ بفعل آلة الاحتلال الاسرائيلي التي لا تتوقف عن القتل والتدمير والتهجير. فالهوية الفلسطينية تشكّلت بفعل المخزون الثقافي والتاريخي للشعب الفلسطيني بوصفه أصلانياً يتنتمي الى أرضه، وبالتالي فإن ممارساته تعكس أصلانيته وهذا ما يُفسر صموده أمام هول ما يحصل من إبادة جماعية قاسية، لا يمكن للانسانية أن تتحمّل بشاعتها. أعتقد، أن الخيارات أمام الانسان الفلسطيني محدودة، لا يمكنها أن تتعدى فكرة الانتماء والاستعداد لدفع ثمن هذا الانتماء وخاصة أن تجربته في العام 1948 كانت مؤلمة جدّا على أكثر من صعيد، أهمها ما تعرّض له من فقدان وحرمان، يدفع ثمنه اللاجيء الفلسطيني حتى الآن، وكذلك ما حصل في 1967، لذا فإن ما تقوم به آلة الإبادة الاسرائيلية هو استكمال لجريمته الأولى والتي لم يُحاسب عليها وفق أعراف الاتفاقيات الدولية التي ترعى حقوق الانسان، وضمن هذا السياق فإن العودة إلى تلك التجربة يعدُّ أمراً خطيراً وتهديداً وجوديّاً، وهذا ما يدركه الانسان الفلسطيني.
ما السبب وراء القصف الممنهج للاحتلال للآثار الفنيقية وغيرها من المعالم الأثرية في غزّة؟ القصف الاسرائيلي استهدف كل شيء في غزة، المنازل، المدارس والجامعات، المشافي، المساجد والكنائس، بيوت الأيتام، جمعيات رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وغير ذلك .. إنه قصف يستهدف الوجود الفلسطيني، إنها محاولة لاخفاء الملامح الفلسطينية وجعلها مشوّهة وغير قابلة للتعريف عن نفسها، هو يسعى من خلال ذلك إلى إبادة جوهر الحضور الفلسطيني، ولعلّ استهداف الآثار الفنيقية في غزة يأتي مكمّلاً لسياسته الممنهجة في هذا الاطار.
الأجيال التي لم تعش النّكبة ولا حرب 1967 لا تقل تصميماً عن حق العودة والتحرير.. ثقافة المقاومةكيف ترسّخت في هذه الأجيال؟ كما سبق وأن قُلت، إن النكبة ما زالت مستمرة، وتداعياتها تطال كل الفلسطينيين، فالأجيال الفلسطينية عانت جميعها من الممارسات الاحتلالية العنصرية، فإنها تنتقل عبر الزّمن لتطال كل الأجيال، وليس أمامنا إلا التمسك بحقوقنا التي هي نقيض ما يسعى إليه الاحتلال، هذه المواجهة بين النقيضين ستبقى مستمرة حتى ينال الشعب الفلسطيني حريته وحقوقه، إن ذلك ينتقل من جيل إلى جيل، لأن هناك حالة من الفقدان المتواصل نتيجة الشعور المُلح بضرورة العودة لأن لا مكان للفلسطيني سوى أرضه. هل وثقتم للآثار الفلسطينية بعد هدمها وإرسالها مع صورها قبل التدمير إلى المؤسسات الدولية مثل اليونسكو وغيرها، ليعرف الغرب حجم الهول والدمار الثقافي الذي يتعرّض له التراث العالمي خاصة أنهم يدعون انهم يقولون أنهم حراسه؟ إن توثيق ما يتعرّض له الموروث الثقافي في قطاع غزة مسؤولية جماعية نعمل على متابعتها مع كافة الأطراف ذات العلاقة، ذلك أننا على تواصل مستمر مع المنظمات العربية والاسلامية والدولية المتخصصة بالشأن الثقافي، وتحديداً منظمة اليونسكو التي تتابع معنا مجريات الاعتداءات غير المسبوقة على التراث الانساني، وقد توجهنا لتلك المنظمات للعمل على تشكيل اللجان الدولية للوقوف على ما يحصل. وضمن هذا السياق فإن استمرار حرب الابادة التي تقوم بها اسرائيل في غزة، يعني المزيد من الاعتداءات على الآثار، والاعتداءات تأخذ أشكالا عديدة كالهدم والتدمير، وسرقة بعضها، وتشويه أخرى، لذا فإن عملية التوثيق لا بد لها ان تكون شاملة ودقيقة حتى يتم محاسبة دولة الاحتلال على جريمتها بحق الثقافة افلسطينية بوصفها جزء من التراث الثقافي الانساني.
ماذا عن التراث الفلسطيني في أراضي 1948، وماذا تهدم وما جهودكم لحماية ما تبقى؟ ليس سرّاً، أننا على تواصل دائم مع أبناء شعبنا في الداخل الفلسطيني عام 1948، فهم مكون أصيل من مكونات الشعب الفلسطيني، وهم في خضم المواجهة اليومية مع السياسات الاسرائيلية العنصرية. شعبنا في أراضي عام 1948 يقوم بجهود جبارة لحماية ما تبقى من تراث، بل على العكس، إنهم متمسكون بالتراث الفلسطيني بشكل حثيث، ولديهم مؤسسات عديدة قائمة لهذا الغرض، فهناك مدن فلسطينية في الداخل ما زالت تحتفظ بالوجود الفلسطيني إذ لم تطالها مخالب التدمير الاسرائيلية على نحو مدمّر كما حصل للقرى وبعض المدن. هذا لا يعني الاطمئنان، فاسرائيل تراهن على عامل الزمن وتضع خططها على نحو تراكمي لمحو أي اثر يثبت الحق الفلسطيني.
الهوية الفلسطينية كانت أحد أسلحة معارك الشعب الفلسطيني في البقاء واستمرارية المقاومة، ما تقييمكم لهذا الدّور، وكيف تخوضون المواجهة للحفاظ على الهوية؟ الهوية الفلسطينية راسخة، حتى في الشتات، نحن نخوض المواجهة ليس من أجل الحفاظ عليها فقط، بل من أجل تمدّدها وتجذّرها، لا يكفي أن نحافظ على الهوية، ثمة اتساع يجب أن نعمل عليه ليشمل الكل الفلسطيني وعبر اجياله المتعاقبة، وهذا أمر لا بد أن تتضافر الجهود من أجله، فالمسؤولية كبيرة وعلى الجميع أن يؤدي دوره في هذا الإطار. كيف نخوض المواجهة للحفاظ على الهوية؟ إنها مواجهة مفتوحة، ونخوضها بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، ذلك أننا نُدرك حجم المخاطر التي تتهددنا، ولعلّ أهم الوسائل هي تلك المتعلّقة بتعظيم دور الثقافة الفلسطينية وانتشارها بشتى الوسائل.
المسجد الأقصى وكنائس الناصرة وغيرها من المقدّسات الفلسطينية تعرّضت وتتعرّض لمخاطر جسيمة، وهي أحد أهم رموز الهوية، والتي يحاول المحتل تدميرها أو الاستيلاء عليها، كيف تخوضون تلك المعركة، خاصة في القدس وأراضي 1948؟ يطول الشرح في هذا الأمر، إلا أن التعقيدات التي تشهدها القدس تفوق التصوّرات، فالاحتلال الاسرائيلي ينفق المليارات من أجل تهويد المدينة وأسرلتها، ويعمل على اختراع قوانينه الخاصة بهدف تقويض الوجود الفلسطيني في المدينة عبر تفريغها من المؤسسات الثقافية والمجتمعية وهو أيضاً يبذل جهوداً كبيرة من أجل إزالة ملامحها العربية والاسلامية وكذلك المسيحية، إنها محاولات دؤوبة من أجل الهيمنة والسيطرة على مدينة القدس لخصوصيتها وأهميتها. في مقابل ذلك نحن نعمل مع الأشقاء في الدول العربية والاسلامية لحماية الوجود العربي والاسلامي، وهذا يتم ترجمته على أرض الواقع من خلال جملة من القرارات المتخّذة من قبل المنظمات العربية والاسلامية، إلا ان الجهود لا زالت دون المستوى المطلوب وخاصة أن حجم الدعم العربي والاسلامي لحماية الثقافتين العربية والاسلامية قد لا تحقق الأهداف في هذا السياق، ولكن الجهود مستمرة ونتطلّع إلى المزيد من المآزرة في هذه المعركة، أما بالنسبة لكنائس النّاصرة، فإن الاجراءات الاسرائيلية هناك أكثر شراسة بحجة أن أراضي عام 1948 هي أراضي اسرائيلية وبالتالي فإن حكومة الاحتلال تمارس سياساتها تلك ضمن هذا الاطار، إلا أن ابناء شعبنا في الداخل وخاصة في مدينة الناصرة يقومون بكل شيء للحفاظ على مقدراتهم العربية والمسيحية في المدينة، ونحن نتابع معهم مجريات التعديات والممارسات الاسرائيلية.
حاولت اسرائيل الاستيلاء على الكثير من الإرث الثقافي الفلسطيني وأن تنسبه إلى نفسها، كيف تحمون هذا الإرث؟ تحاول اسرائيل ذلك بالفعل، إنهم يسرقون كل شيء، وينسبونه إلى أنفسهم، أعتقد أن ذلك يدلل على فقدانهم لتراث محدّد، وهذا يؤكد أنهم ليسوا أصحاباً لهذه الأرض، إنهم خليط من ثقافات مختلفة، يحاولون خلق تراثهم الخاص وذلك بسرقة وتزييف التراث الفلسطيني، لأنه التراث الوحيد الذي يشبه هذه الأرض وينسجم مع طبيعتها، هم يحاولون ذلك بكل تأكيد. ولكن من خلال صمود الشعب الفلسطيني وانتشاره في كل مكان في هذا العالم فإن مسألة سرقة التراث ليست بالامر السهل، فالفلسطينيين متمسكون بتراثهم اينما تواجدوا وبالتالي وزارة الثقافة تعزّز هذه الفكرة من خلال إجراءات عديدة، منها على سبيل المثال تسجيل التطريز الفلسطيني على لائحة التراث غير المادي، وكذلك إدراج الدبكة الفلسطينية على قائمة التراث العالمي، وغير ذلك من الاجراءات التي من شأنها أن تحفظ الحقوق الفلسطينية.
ماذا عن الثقافة الإسرائيلية.. في الصّراع الوجودي ثمة من يقول ان اسرائيل لا بد وأن تهزم لأن ثقافتها ملفّقة وكذلك التاريخ والهوية لكن لا شيء يلوح في الأفق سوى مزيد من الموت والدّمار للفلسطينيين؟ ببساطة لا يمكن للثقافة والاحتلال أن يسيران مع بعضهما البعض، أن تكون قاتلاً وسارقاً لا يمكنك أن تدعي الثقافة والحضارة، ولا يمكنك أن تتطرّق للجمال والقضايا الانسانية وأنت تحاربها، إن ثقافة اسرائيل ثقافة موت وقتل للاطفال والنساء إنها ثقافة مخيفة لا يمكنها أن تندرج في سياق جمالي أو شاعري. لذا أنا اتفق مع القول بأن لا ثقافة حقيقية لدى الاحتلال الاسرائيلي، هناك محاولة للادعاء بأن ثمة ثقافة اسرائيلية لكن هذا الادعاء بدأ يتكشف أمام العالم ونحن نرى الآن كيف يقوم طلاب الجامعات والاكاديميون فيها برفض السلوك المشين لإسرائيل وبالتالي فإن الحاضنة التاريخية التي شكّلتها أنظمة الغرب بدأت تتلاشى وسيكون الأمر مختلفاً عند الأجيال الأوروبية والأمريكية في طريقة نظرتهم الى الثقافة الاسرائيلية حيث ستكون مثاراً للريبة والتشكك.
اللاجئون الفلسطينيون يتعرّضون أيضاً لتذويب هويتهم وثقافتهم الوطنية.. ما الذي يمكن أن تقدّمون لهم؟ وهل تتواصلون مع اللاجئين في أنحاء العالم فيما يتصل بالجوانب الثقافية والحضارية لدعم الوطن في هذه المعركة المصيرية، أم أنهم يتحركون بمعزل عنكم؟ ليس سهلاً تذويب الهوية والثقافة لدى اللاجئين الفلسطينيين، إن ذلك لم ينجح على مدار السنوات الطويلة الماضية، في كل مرة يعتقد فيها الأخرون ذلك نجدهم في حالة من الصّدمة إزاء التمسك الفلسطيني بهويته وثقافته، ونحن بكل تأكيد على تواصل مع الجاليات الفلسطينية في كل مكان عبر سفاراتنا وعبر ممثلي منظمة التحرير الوطنية الفلسطينية وهناك دائما حراك مشترك يضم كافة أطياف الشعب الفلسطيني، إلا أن التحديات كبيرة، فهناك حصار متعدد الطبقات تفرضه إسرائيل للحد من امكانيات الحكومة الفلسطينية وللسعي لتقويضها تحقيقاً لأهدافها الاستراتيجية بتغييب عنوان فلسطيني يمثل الفلسطينيين، لا يوجد فلسطيني لا يشارك في المعركة المصيرية فالكل منخرط ضمن امكانياته التي يستطيع العمل من خلالها.
في معظم أنحاء العالم اندلعت المظاهرات المؤيدة للحق الفلسطيني ورأينا شعوباً بعيدة تخرج وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية والعباءة وغيرها من رموز الثقافة الفلسطينية ومعالم الهوية، كيف نستفيد من هذه الدّفعة القوية في معركة الوعي والثقافة؟ إن المظاهرات المؤيدة للحق الفلسطيني، هي في الحقيقة ردود أفعال طبيعية ناتجة عن الفطرة الانسانية، ان المشاهد المروّعة والقاسية التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفاز أظهرت بشاعة ما تقوم به اسرائيل وأثارت لدى الشعوب جملة من التساؤلات الكبيرة حول ماهية ما تقوم به آليات القتل هذه، بهذا التكيف الذي يستهدف قتل الاطفال والنساء وسرقة الأعضاء والجلود والمقابر الجماعية والعمل على إهانة كرامة الانسان الفلسطيني حتى في موته، هذا كله شكل رافعة للقيم الانسانية المشتركة، وفي الحقيقة إسرائيل أثبتت همجيتها وقسوتها وهذا مثّل دافعا للخروج ضدها في كل مكان في العالم. ما يمكن أن نقوم به، هو القيام بكل ما يمكن من أجل استمرار هذا الضجيج في الضمير الانساني العالمي، وأن ندفع به نحو المزيد من التظاهر والرفض لكل هذا القتل والتدمير الذي لم يشهد له العالم مثيلاً.
كثيرون من المبدعين والمثقفين نالوا الشهادة، فكيف نكرّمهم ونقدّم إبداعهم، وهل تعتقد أنهم على رأس قائمة الاغتيالات؟ لقد شكّل المثقف الفلسطيني رأس حربة في المقاومة الفلسطينية، فمشاركته في المقاومة لم تتوقف عند حدود نشاطه الفكري أو الفني، بل تعداه ليلتحم بجسده في كثير من الأحيان، إن ما تعرض له المثقف الفلسطيني يأتي استكمالا للمخطط الاسرائيلي بالقضاء على رموز الثقافة الفلسطينية باعتبارهم الأكثر قدرة على التأثير في دحض السردية المزيّفة التي تعمل اسرائيل على نشرها، ومن الجدير بالذكر هنا أن الشعب الفلسطيني بطبيعته يحترم مثقفيه ويقدرهم، وضمن هذا النهج فان الوزارة تقوم بتكريم مثقفي الشعب الفلسطيني وتقدم الجوائز المتصلة بهم، وتعمل على الحفاظ على إرثهم الأدبي والفني وتسعى الى نشره في كافة السياقات.
ماذا عن الثقافة الاسرائيلية ومكوناتها وهل هي ثقافة متجانسة أو أصيلة؟ أم أنها خليط غير متجانس من ثقافات متعددة؟ إن مكونات الثقافة الاسرائيلية تقوم على أفكار متطرّفة، ذات خلفية استعمارية، وهي تحاول أن تجسّد أفكارها ضمن إدعاءات وأكاذيب كثيرة كادعائها بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ولكن بالنظر إلى المضمون الذي تقدّمه الثقافة الاسرائيلية نجد أنه غير متماسك، ونستطيع التعبير عن ذلك بوضوح كلما تعمقنا أكثر في المشهد الثقافي الاسرائيلي، فمعظم التراكيب الثقافية عندهم متداخلة مع بعضها ضمن مستويات متذبذبة. لكن هناك تسويق لهذه الثقافة في الغرب وهناك تبادل ثقافي مستمر مع العديد من الدول الغربية، فاسرائيل متنفّذة في الاوساط الفنية والأدبية في العالم الغربي وهي تمتلك مفاتيح مؤثرة تروّج من خلالها لثقافتها. مرة أخرى إن مسألة نضج الثقافة الاسرائيلية، مسألة ترتبط بجوهر الفكر الاسرائيلي القائم على العنصرية والتطرّف ومحاولة إلغاء الآخر، لذا فإنها مهما استطاعت أن تروّج لنفسها فإنها ستصطدم حتما بجدار الحقيقة التي لا مفر منها، لأنها دولة احتلال تمارس القتل والابادة ضد شعب أعزل يناضل من أجل الحرية والانسانية.
ثقافياً وحضارياً وتاريخياً يبدو أن دعم الغرب لاسرائيل ينطوي على انتماء مشترك كيف تواجهون ذلك؟ الأمر الآن يأتي في سياق المصالح المشتركة بين الطرفين، ولكن علينا ان ننتبه إلى أن السياسة الغربية لا تمثل الشعوب، ونحن نرى الآن كيف يتم التعبير عن الرفض لتلك السياسات اذ باتت واضحة، فهي تخالف القيم التي أرستها المنظومة الغربية بخصوص الحريات والقيم الانسانية، ولعل التناقض واضح عند المقارنة بين الموقف الغربي إزاء الحرب الروسية على أوكرانيا وحرب الابادة التي تقوم بها إسرائيل على الفلسطينيين، إنها مقارنة صادمة لا يمكن أن يستوي ذلك مع العقل والمنطق، فالجرائم الاسرائيلية لا يمكن الدفاع عنها وتقديمها على انها ممارسات طبيعية أو أنها تندرج ضمن الدفاع عن النفس أو غير ذلك من الادعاءات.
كيف ترى موقف المثقفين العرب من الحرب الحالية وماذا كنتم تتوقّعون منهم؟ ان الموقف العربي من القضية الفلسطينية لا يمكن تخطيه، فالأمة العربية كانت وما زالت الحاضن الأصيل للشعب الفلسطيني، ولكن ما نشهده في هذه الأيام هو تراجع عام في المواقف العربية وذلك لما تعانيه من أزمات ألقت بظلالها الثقيلة على الحياة اليومية للمواطن والمثقّف العربي، فنحن ندرك حجم الأزمات التي تعانيها شعوبنا العربية، رغم ذلك فإن الانحياز للحق الفلسطيني ظاهر بشكل لا يمكن القفز عنه، هناك اهتمام عربي كبير لما يحدث في فلسطين، وهذا الاهتمام يُترجم أحيانا إلى مواقف هنا وهناك، إلا أننا بطبيعة الحال نتطلع إلى المزيد من المواقف الداعمة للحق الفلسطيني، وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى الدور الكبير الذي يقوم بها المثقف والأكاديمي العربي في دول العالم لا سيّما الغرب، إذ ان الحراكات التي نشهدها هي في الأساس منبثقة عن الدور الذي يقوم بها أبناء الجاليات العربية.
كيف تواجهون دعم مفكرين ومثقفين غربيين لاسرائيل وتصويرها على انها ضحية كيف ترون كيفية مواجهة قلب الحقائق هكذا، وما هي تحركاتكم في هذا الشأن؟ إنهم معزولون، لا أحد يصدقهم الآن، أولئك وضعوا أنفسهم في مواقف صعبة سيحاكمهم عليها التاريخ، وهم مثار ريبة وشك، وبالتالي فإن الدماء التي تسيل يوميا هي الحبر الساخن الذي يواجه كذب هؤلاء، ونحن بكل تأكيد نسعى باستمرار لفضح أكاذيبهم، ونعتقد أن الأصوات بدأت تتعالى في مواجهتهم. وهذا يشكل مصدر ارتياح بالنسبة لنا بأن المواقف آخذة بالتطور نحو الحقيقة، وقد ساعد في ذلك الكثيرون من المفكرين والمثقفين أصحاب الرأي الحر في العالم.
بعد وفاة محمود درويش وسميح القاسم هل خفت صوت الشعر الفلسطيني الذي كان سلاحاً ثقافياً فعالاً في التوعية بالقضية الفلسطينية واستقطاب اجيال من العرب لدعم فلسطين؟ صحيح أن الشاعر الكوني محمود دويش قد رحل، وكذلك الأمر بالنسبة لسميح القاسم، وغيرهما من الكتاب والشعراء الفلسطينيين المؤسسين، إلا أن أشعارهم وكتاباتهم ما زالت موجودة ومؤثرة وهي حاضرة في هذه الأيام، فالشعر الفلسطيني لا يموت طالما القضية الفلسطينية ما زالت قائمة، لذلك فإن صوت الشعر الفلسطيني لم يخفت بل على العكس من ذلك انه يتأجج، ولعل حضور الكلمة الفلسطينية قويّا وفاعلاً وكان آخر تمثّلات هذا الحضور هو فوز الروائي باسم خندقجي بجائزة البوكر الرفيعة، وهذا يشكل منبع فخر لنا، ونحن نرى أن شكل الثقافة الفلسطينية يأخذ ملامح مختلفة وهي آخذة بالتبلور على صعيد الأدب والسينما والفنون البصرية وغيرها من القطاعات الثقافية.