مرت الذكرى الثلاثون لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية كحدث عابر غابت عنه الأضواء ومظاهر الاحتفال الرسمى كمناسبة يفضل إغفالها أو صرف الأنظار عنها، وهو ما يقتضيه منطق الأحداث. فليس هناك ما يدعو للاحتفال مع تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلى الهمجى ضد الشعب الفلسطينى واستيطان الأراضى المحتلة وتهويدها، وتعطيل جهود التسوية الفلسطينية . الإسرائىلية، ثم الحرب الأخيرة على غزة وما انطوت عليه من جرائم حرب مبيتة. ذلك كله بالإضافة إلى صعود اليمين الإسرائيلى المتطرف إلى منصة الحكم ودعاواه الاستيطانية والمناداة بطرد الفلسطينيين من عرب 48، وضع حكومة مصر شريكة معاهدة السلام فى موقف صعب أمام شعبها، وأمام الشعب الفلسطينى وجميع الشعوب العربية المتمسكة بالحقوق الفلسطينية. فى ذروة الغضب على مذبحة غزة ارتفعت أصوات مصرية تطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل، بل وإلغاء معاهدة السلام ذاتها. وفى المقابل أظهر استطلاع إسرائيلى للرأى العام أخيرا أن 89٪ من الإسرائيليين يؤيدون إعادة احتلال سيناء كليا أو جزئيا، وهو ما كان يمكن أن يسفر عنه رأى لوبى الشعور بضعف موقف مصر وقدراتها وسيطرة الشعور بغرور القوة الإسرائيلية. والمطالبة فى مصر بإلغاء المعاهدة لا تتعدى أن تكون ردود فعل غاضبة على تصرفات إسرائيل، فالمعاهدة المصرية الإسرائيلية قد تجاوزت مرحلة حسابات الربح والخسارة، فلا مصر راغبة فى إلغاء المعاهدة ولا هى قادرة على ذلك. إن إلغاء معاهدة السلام يعنى فى الحد الأدنى العودة إلى حالة الحرب، والحرب مأساة إنسانية مروعة لا تحسمها الشعارات الوطنية أو الخطب الرنانة. وأقل ما يمكن أن يقال عن المعاهدة إنها أعادت لمصر جزءا استراتيجيا من أرضها التاريخية كانت إسرائيل قد احتلته فى حرب خاطفة عام 1967 سقط فيها قلب مصر جريحا، وانهار معها معبد الناصرية الشامخ، فقد كانت هذه هى المرة الأولى التى تُحتل فيها أرض مصرية بشكل ثابت منذ الغزو البريطانى عام 1882. كذلك فإن إلغاء المعاهدة هو إهدار لإنجازات حرب أكتوبر التاريخية ولمبادرة الرئيس الراحل أنور السادات التى تمخضت عنها اتفاقات كامب ديفيد عام 1978 سابقة على إبرام معاهدة السلام فى العام التالى. لكن معاهدة السلام لا يمكن أن تبقى بمعزل تام عن أحداث المنطقة المضطربة فى غيبة سلام شامل يطوى صفحات الملفات المفتوحة وعلى رأسها ملف القضية الفلسطينية، إن التطورات الضاغطة الأخيرة، خاصة العدوان على غزة، تضع مصر فى موقف حرج تبدو فيه وكأنها تتشبث بمعاهدة السلام رغم كل الظروف. ومنها القصف الإسرائيلى المتكرر لشريط الحدود المصرى المتاخم لغزة الذى يمكن أن يفسر بتداعياته الخطيرة بأنه انتهاك خطير لمعاهدة السلام إذا أرادت مصر اتخاذ موقف بهذا الشأن. ذلك كله يجعل المعاهدة أشبه بهدنة مفتوحة منها إلى سلام حقيقى طبيعى مثلما هو قائم بين الدول. ومصر كحكومة تتمسك بمعاهدة السلام كقرار استراتيجى لا رجعة فيه، لكن المناقشات الحامية التى تدور حولها من آن لآخر وتصل إلى قمة حدتها فى ظروف العدوان الإسرائيلى المتكرر، تكشف أن الرأى العام المصرى لم يتصالح معها ولا مع إسرائيل حتى بعد مرور ثلاثين عاما على توقيعها. ويبدو أن لشعور العداء نحو إسرائيل أسبابا أخرى غير مباشرة. فهناك جيل بأكمله لا يعرف شيئا عن الحرب، بل لا يعلم عن حرب أكتوبر 1973 إلا بعض ما تنشره الصحف أو يبثه التليفزيون عن هذه الحرب فى ذكراها كل عام فى استعراض يفتقر إلى الإبداع أو المناقشة الصريحة المتعمقة ويميل إلى الدعاية الفجة. ولا شك عندى أن هذا الجيل أو ما يليه من أجيال لن يتخلف عن القتال دفاعا عن أرض مصر، لكن الأغلب أنه استأنس حالة السلم كأمر مسلم به رغم كل استفزازات إسرائيل وتحرشها السياسى والعسكرى أحيانا. على أن الأهم من ذلك كله هو أن عهد السلام لم يأت لشعب مصر بثماره الموعودة. كانت المعادلة هى أن إنهاء حالة الحرب وتحرير الأرض سوف يحولان جهود التعبئة وأرصدة الاستعداد العسكرى إلى الاستثمار فى التنمية وصناعة الرخاء فى مشروع قومى شامل للنهضة وبناء المستقبل. لكن هذا المشروع فشل على امتداد ثلاثين عاما فى تحقيق أحلام المصريين. حيث تم استبداله بمشروع أمن الدولة وأوجد طبقة من المليونيرات الجدد أشبه بطبقة «البارونات اللصوص» التى عرفتها أمريكا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. وقد أصبح هذا التحالف هو العقد الاجتماعى والسياسى الجديد بديلا عن الاستناد إلى جموع قوى الشعب، وبديلا عن توفير الديمقراطية وأمن الشعب وحرية الاختيار كضامن حقيقى يقوم على التوافق وتغليب المصلحة العامة. وحياة المصريين اليومية تفيض بعشرات الأمثلة على انهيار القيم والخدمات وتراجع الحريات وامتهان حقوق الإنسان وتدنى مستويات المعيشة والافتقار إلى الحقوق الأساسية للمواطن وزيادة معدلات الفقر والبطالة والجريمة وانتشار الفساد والاحتيال والثراء غير المشروع. بدأنا منذ ثلاثين عاما عهدا من السلام مثلما بدأت الصين فى نفس التاريخ مرحلة الإصلاح الاقتصادى، والفارق فى النتيجة واضح لكل من يرغب فى المقارنة. الغريب فى الأمر أن الصين بتعداد سكانها البالغ 1300 مليون نسمة لم تشك من مشكلة الزيادة السكانية ولم تلق عليها تبعات لإخفاق سياساتها التنموية. فى التحليل النهائى خرجت مصر من مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى باستعادة أرضها، وهذا حقها، لكنها خرجت أيضا من معادلة السلام صفر اليدين، وهذا ليس قدرها. لو أن نظام الحكم فى مصر أحسن استخدام الفرص التى أتاحتها ثلاثة عقود من السلام ومواردها الطبيعية والجغرافية والبشرية لكانت مصر الآن وليست إسرائيل هى اللاعب الاستراتيجى الرئيسى فى المنطقة. ومع ذلك فإن مصر ما زالت تتحمل بعض آثار الصراع العربى الإسرائيلى الذى يتمثل فى إجهاض إسرائيل لمبادرات السلام ومحاولاتها المستمرة لتذويب الوجود الفلسطينى والاستيلاء على أرض فلسطين، لولا ثبات المقاومة الفلسطينية. وبصرف النظر عما إذا كانت مصر قد خرجت من خضم الصراع العربى الإسرائيلى مبكرا أو فى الوقت المناسب، فإن الثابت تاريخيا أنها استبقت معاهدة السلام باتفاقات كامب ديفيد التى وضعت الإطار الشامل للسلام فى الشرق الأوسط، وأرست مبدأ الأرض مقابل السلام الذى يعد أساسا للمبادرة العربية الآن، وانتهت إلى الاتفاق على آليات وبرنامج الحكم الذاتى الفلسطينى فى الضفة الغربيةوغزة. والثابت أيضا أنه بالرغم من كل بيانات ومؤتمرات الاستنكار والإدانة العربية وإجراءات معاقبة مصر. فإن رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية أبلغا الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر فى اجتماع تم فى باريس بين الطرفين فى عام 1990 بأنهما يقبلان باتفاقات كامب ديفيد كأساس للتفاوض على مسألة الوضع النهائى للقضية الفلسطينية، كما جاء فى كتاب كارتر «فلسطين السلام لا الفصل العنصرى» (2006). المشكلة الرئيسية هى أن إسرائيل قامت على الحرب والعدوان والاستيلاء على الأرض بالقوة. وباستثناء معاهدة السلام مع مصر، فإن إسرائيل استمرت فى خيار القوة المسلحة، بينما اختارت مصر السلام كخيار نهائى لا رجعة فيه، وبذلك تظل مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى قائمة. وهى بتبعاتها وصداماتها تجعل العلاقة بين مصر وإسرائيل أشبه بحالة السلام الساخن أو الحرب الباردة، أى حالة هدنة مفتوحة تقارن بالهدنة القائمة بين الكوريتين الشمالية والجنوبية منذ انتهاء الحرب بين الكوريتين فى عام 1953. ولأن مصر خرجت من الصراع لفترة مفتوحة تحكمها معاهدة سلام، فإن حالة الصراع مع ذلك سوف تستمر ما دامت استمرت إسرائيل فى الانفراد بإدارته بالقوة المسلحة. وذلك يستدعى دخول قوة أو قوى جديدة على المسرح للمشاركة فى إدارة الصراع بكل مقوماته السياسية والعسكرية والاستراتيجية حتى تتم استعادة توازن القوى المطلوب لحسم الصراع وإقرار السلام فى المنطقة.