أطلقت فى السابع من أكتوبر مئات الصواريخ من قطاع غزة تجاه إسرائيل، وتابعتها عمليات فلسطينية متعددة ومتنوعة إلى داخل الحدود الإسرائيلية، وهو ما لم نشهده من قبل، عمليات تم التخطيط لها والتدريب عليها ضد أهداف عسكرية وأمنية ومدنية، ترتب عليها ضحايا وأسرى بأعداد تفوق ما شهدناه فى الماضى، مما دفع رئيس وزراء تل أبيب لإعلان أن بلاده فى حالة حرب، وأن الأمر سيتجاوز مجرد رد الفعل بعمليات عسكرية ضد مواقع إطلاق الصواريخ، وأعلن الرئيس بايدن تأييده لإسرائيل وتوفير دعم عسكرى أمريكى إضافى يصل إلى ثمانية مليارات دولار، واتخذ عديد من القادة الغربيين مواقف مماثلة. تم كل ذلك فى الوقت الذى لا يختلف أحد فى المنطقة أو خارجها على أن الدفة العسكرية بين تل أبيب والجانب الفلسطينى، بما فى ذلك قطاع غزة، فى صالح إسرائيل، التى يعتبرها البعض أقوى جيوش الشرق الأوسط. جاءت العمليات مفاجئة للجميع من حيث الشكل والمضمون، وانطلقت فى وقت لا يتم فيه تناول القضية الفلسطينية دوليا أو إقليميا باهتمام كبير، إزاء التعنت الإسرائيلى وصعوبة توقع نتائج مع أكثر الحكومات الإسرائيلية تشددا وعنصرية، وأصبحت هناك قناعة لدى البعض بأن العرب لا يعطون تلك القضية الأولوية، وهى آراء نقلت لى مباشرة خلال مشاركتى فى ندوة لمجلس العلاقات الخارجية بنيويورك فى الخامس من أكتوبر، بمناسبة مرور 50 عاما على حرب أكتوبر المجيدة، وشارك فيها خبراء من المنطقة والولايات المتحدة، بما فيهم هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى السابق الذى لا يزال حاضرا ومشاركا بعد أن تجاوز عمره 100 سنة. انطلقت تلك العمليات الفلسطينية مستهدفة أهدافا إسرائيلية أمنية ومدنية، وهناك يقين كامل أن رد الفعل الإسرائيلى سيكون بالغ القسوة والعنف، وأن المجتمع الدولى يكيل بمكيالين فى الإدانة الشديدة لاستهداف المدنيين الإسرائيليين واعتبار الخسائر المدنية الفلسطينية فى غزة أضرارا جانبية. لن أطيل فى ملاحظاتى اليوم أو أتطرق لأمور كثيرة، وسأتجنب ذلك عن عمد وطواعية لأتوقف عند خاصيتين مهمتين، مما سبق «طوفان الأقصى» والصدام الذى وقع بين الأطراف المختلفة، أما المبررات السياسية والتداعيات الإقليمية فستكون حديث يوم آخر. أولى تلك الملاحظات، هى أن الاحتلال مرفوض مهما طال وامتد، ويولد رد فعل عسكرى أو عنيف من الطرف المحتل، حتى إذا كان التوازن العسكرى فى غير صالحه، وهذا درس مهم من دروس تاريخ الاستعمار عامة والأوروبى والشرق أوسطى بشكل خاص، ومن أهم الدروس المستفادة من حرب أكتوبر المجيدة التى بدأتها مصر وسوريا، على رغم علمهما بالتفوق العسكرى الإسرائيلى، والدعم الأمريكى للعدو بما يفوق الدعم السوفياتى للطرف العربى حينذاك، فأطلقت الحرب بهدف واضح وحساب دقيق ألا وهو بدء مفاوضات جادة بين الأطراف العربية وإسرائيل. ووصف المحلل الإسرائيلى ناحوم بارنيا «طوفان الأقصى» بأنه أسوأ يوم فى التاريخ العسكرى الإسرائيلى، وبما يتجاوز حرب أكتوبر، باعتبار أن «حماس» قوة عسكرية صغيرة استهدفت أكثر من 20 موقعا فى إسرائيل، تصل إلى 15 ميلا داخل الحدود الإسرائيلية، وأخذت رهائن وأسرى إلى غزة، يشكلون عنصر ضغط وتفاوض مع إسرائيل بعد انتهاء رد الفعل الإسرائيلى العسكرى المتوقع، ونجحت العمليات الفلسطينية بعد أن أنفقت إسرائيل أكثر من مليار دولار على بناء حائط عازل بغرض تأمين الحدود. ويشير بارنيا إلى أن إسرائيل كانت تتابع التدريبات الفلسطينية وعلى علم بها، وإنما سقطت هذه المرة أمام قوة فلسطينية غير نظامية، نتيجة لغرورها والشعور بأنها قوة لا تقهر، وهو ما حدث قبل نصف قرن فى حرب أكتوبر أمام أقوى جيش عربى. يجب عدم المبالغة فى التشبيه بين حرب أكتوبر و«طوفان الأقصى»، حتى يكون تقييمنا دقيقا ومفيدا، إنما بات واضحا بجلاء أن استمرار الاحتلال مرفوض فلسطينيا خصوصا، ويطبق مع مخالفات عديدة للقانون الدولى الإنسانى وتجاهل مسئوليات الدولة المحتلة، ومع صعوبة تحرير الفلسطينيين لأراضيهم عسكريا على الأمد القصير، لجأ الجانب الفلسطينى إلى «طوفان الأقصى» كوسيلة لخلق «حالة مختلفة» مع الإسرائيليين ونجح فى ذلك، ستترجم إلى مفاوضات علنية غير مباشرة، وأخرى مباشرة سرية حول تبادل الأسرى والرهائن والترتيبات الأمنية والاقتصادية. أما الخلاصة الأخرى التى قررت التركيز عليها اليوم فهى خطورة تفاقم الشعور بالظلم واليأس، لأنه ينتهى حتما إلى تحويل الصدامات العسكرية التى مع خطورتها لها قواعد وقوانين، إلى عمليات بين فئات مسلحة نظامية وغير نظامية، وتستهدف كثيرا وفى أغلب الأحيان أهدافا مدنية، وأتذكر مقولة لرئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود باراك بأنه لا يستغرب العمليات الفلسطينية «الإرهابية» نتيجة ما يتعرضون له من معاناة، وأنه لو كان فلسطينيا لن يكون بعيدا منها، علما أن إسرائيل تستهدف كثيرا من الأهداف المدنية بقواتها النظامية، وتمكن المستوطنون من استخدام العنف ضد المدنيين الفلسطينيين. وأحذر بكل قوة من السقوط فى مغبة الاعتماد أكثر من اللازم على معادلات توازن القوة العسكرية على حساب تغليب الحق على الباطل، ومن تراجع بل اختفاء الجهد السياسى والدبلوماسى لإنهاء الاحتلال، حتى إذا كانت بطيئة إزاء ضعف فرص التقدم؛ لأن الشعور بالظلم يولد غضبة لا تزول، وعندما يغلب اليأس على النفوس، ويغيب الأمل فى إيجاد سبل وبدائل لتحريك الأمور يغذى ذلك الرغبة فى الانتقام، ويدفع إلى مزيد من العنف المتبادل، يصحبه حتما تنامٍ تحرك الأطراف النظامية وغير النظامية لاستهداف مزيد من المواقع المدنية على الجانبين، وهى تطورات خطرة على حساب مصالح الجميع، مع تحول المعارك بين كيانات سياسية إلى صراعات مجتمعية تقضى بالكامل على القليل المتبقى من فرص حل الدولتين على المدى الطويل، بل أيضا على احتمالية حل الدولة الواحدة، المشكوك فيها أصلا، لأنها تفترض تنازل الشعبيين عن هويتهم التاريخية، والتعامل فى ما بينهم بالعدل والمساواة فى إطار هوية مشتركة.