يتبين من الاستشهادات القرآنية ومن السنة النبوية، أن الإسلام كرم الرجل والمرأة وحثهم على العمل على حد سواء، وأعطى المرأة الحرية الكاملة في التصرف في مالها، وأعطاها حق اختيار العمل أو المهنة التي تميل إليها، وليس فيها مخالفة لنص شرعي. ويقول الله تعالى في قرآنه: "وقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"، فيما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ يَحْتَطِبَ أحَدُكُمْ حُزْمَةً علَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ له مِن أنْ يَسْأَلَ أحَدًا، فيُعْطِيَهُ أوْ يَمْنَعَهُ". وتستعرض "الشروق" في حلقات خلال ال10 أيام الأولى من شهر رمضان، مهن الصحابيات في عهد النبي مع ذكر أمثلة لهؤلاء الصحابيات اللاتي امتهنَ هذه المهنة. ليس صحيحًا ما يُقال أن المرأة في صدر الإسلام لا تخرج أبدًا إلا ثلاث مرات، من بطن أمها إلى الدنيا، ومن دار أبيها إلى الزوج، ومن دار زوجها إلى القبر، وقُتِلَ الخرَّاصون الذين يدّعون ظلما وزورًا أن المرأة في ظل الإسلام مكسورة الجناح ومهضومة الحق، بل الحقيقة أن المرأة عاشت في ظل هذا الدين، الخالدة والمتمتعة بكامل حقوقها تشارك أُمتها في تحقيق آمالها وتخفيف آلامها. ومنهن نساء فُضليات أثرين تاريخ الإسلام وكما قال الله في كتابه العزيز "وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّه بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّه مِن فَضْلِه إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"، فالآية نسبت الاكتساب للرجال والنساء على حد سواء، فعلم أن للمرأة أن تعمل وتكتسب لكمال أهليتها، ومما لا شك فيه أن التجارة وجه من وجوه الاكتساب، بل أهمها على الإطلاق، فقد اشتغلت كثير من النساء في عهد النبي صل االله عليه وسلم بالتجارة ولم ينكر عليهن، وهذا أكبر برهان على أن الإسلام ساوى بين شطري الإنسان الذكر والأنثى في مجال التجارة، ولهذا وجب علينا أن نشير إلى أول وأكرم من امتهنت هذه المهنة من النساء، وهي أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد. * نسبها: هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزّى بن قصّي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، جدّها "خويلد" كان بطلاً مغواراً دافع عن حياض الكعبة المشرّفة في يوم لا يُنس. والدتها فاطمة بنت زائدة بن أصم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر، كانت سيّدة جليلة مشهود لها بالفضل، ويلتقي نسبها بنسب الرسول الأعظم صل الله عليه وآله عند جدّها الثالث من أبيها، وعند جدّها الثامن من أمّها. وقد عرفت السيدة خديجة رضي الله عنها بنسبها، فكانت أشرف نساء قريش نسبا، وأكثرهن أموالاً، فكان والدها خويلد بن أسد من أشراف ووجهاء قريش، وكان من المشاركين في الوفد الذي أرسلته قريش إلى اليمن؛ لتهنئة الملك العربي سيف بن ذي يزن بنصرهم على الأحباش بعد عام الفيل بسنتين، وتوفي قبل حرب الفجار التي وقعت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس بن عيلان من جهة أخرى، طبقا لما ورد في كتاب أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام بقلم الأستاذ علي أكبر مهدي بور. * تجارة خديجة بنت خويلد حسبما ذكر كتاب سلسلة الأوائل للكاتب محمد ثابت توفيق أنها عرفت بأخلاقها الرفيعة، وقال السهيلي في وصفها: "خديجة بنت خويلد كانت تسمى الطاهرة في الجاهلية والإسلام"، كما سميت بسيدة نساء قريش كما ورد في سِير التيمي، وقال الإمام الذهبي فيها: "هي ممن كمل من النساء، كانت عاقلةً جليلةً، ديّنةً مصونةً كريمةً"، وقد عملت في التجارة، وكانت تجارتها ذات رِبحٍ وفير، وسمعة حسنة، وجودة عالية، وعرف عنها استقلالها في أموالها وتجارتها، وحسن إدراتها للأمور، واختيارها للرجال العاملين في تجارتهم، إذ اتصفوا بالأمانة، فقد وصلت تجارتها وسمعتها الحسنة إلى بلاد الشام، والعراق، والفرس، والروم، وكانت قوافلها لا تنقطع بين مكة والمدينة. وعرف عن خديجة بنت خويلد أيضاً إحسانها للفقراء والمحتاجين، فكانت بمثابة يد العون لهم، كريمة في عطائها، محسنةً للناس جميعاً لم تكن السيدة خديجة رضي الله عنها تسافر للتجارة بأموالها، بل كانت تتفق على السفر للتجارة مع رجالٍ مقابل مبلغٍ معين، أو تعقد معهم عقد مضاربة أو قراض؛ ويعني عقد اتفاق مع طرف آخر بالخروج للتجارة مقابل نسبةٍ معينة، على أن تملك المال، وتكون الخسارة عليها وحدها دون تأثر الطرف الآخر، وفي ذلك يقول أبو زهرة رحمه الله: "كانت السيدة خديجة رضي الله عنه تتحرى في أولئك العاملين لها الأمانة؛ لأنّهم في عملهم ينوبون عنها، لا تلقاهم إلا في ذهابهم ومجيئهم". * ثروة السيّدة خديجة لسنوات طويلة كانت القوافل التجارية للسيّدة خديجة من أكبر قوافل قريش، وقد ربحت من تجارتها ثروات طائلة، وضعتها جميعها تحت تصرّف الرسول الكريم صل الله عليه وآله؛ لينفقها فيما يراه مناسباً، يقول العلامة المامقاني: لقد وصلنا بالتواتر عن الرسول الأكرم صل الله عليه وآله أنّه قال: "ما قام الدين إلاّ باثنتين: سيف عليّ وأموال خديجة فأنفقت ما جمعته في سبيل الله"، وذلك لما ذكر في كتاب أم المؤمنين خديجة الكبرى للكاتب علي أكبر مهدي. *خديجة حكيمة قريش. اشتهرت السيّدة خديجة بالجمال والكمال والثروة والشرف الرفيع والعلم والحلم وصلابة في اتّخاذ القرار، ودقة في الرأي، ورأي سديد، وعقل راجح وفكر صائب، ومن الطبيعي أنّ من تجتمع لها صفات الكمال والفضل يتسابق الرجال إلى خطبتها والزواج بها، وهذا ما كان مع السيّدة خديجة حيث سارع رؤوس بني هاشم وأقطابها، لا بل وصل الأمر إلى ملوك اليمن وأشراف الطائف، الذين سعوا عبر إغداق الأموال والهدايا للفوز بقلبها، والتربّع على قمّة الشرف والمجد، لكنّها خذلتهم جميعاً، ووقع اختيارها على أمين قريش ومؤتمنها لكي يفوز بقلبها. وتشرح السيّدة خديجة سبب هذا الاختيار بالقول "يا بن عمّ إنّي رغبت فيك لقرابتك منّي وشرفك من قومك وأمانتك عندهم وصدق حديثك وحسن خلقك"، كما أفشت بسرّ هذا الاختيار إلى صفيّة بقولها: "إنّي قد علمت أنّه مؤيّد من ربّ العالمين". لقد استشارت السيّدة خديجة عليها السلام سيّدة أخرى جليلة في هذا الأمر حتى ذهبت بمعيّتها إلى الرسول الكريم صل الله عليه وآله، وعرضت عليه الزواج قائلة: "لقد اخترت لك امرأة من قريش، فأجاب الرسول العظيم: ومن تكون؟ فقالت السيّدة خديجة: هي مملوكتك خديجة"، ورد ذلك في كتاب نساء شهيرات للكاتب عبدالسلام العشري. * زواج خديجة بنت خويلد من النبي عرف محمد صلّ الله عليه وسلم بأفضل الأخلاق وأكرمها، وحين عَلِمت السيدة خديجة رضي الله عنها بصدقه وأمانته وفطنته، أرسلت إليه وعرضت عليه خروجه للتجارة بمالها، على أن تعطيه أفضل ممّا تعطي غيره، فقبِل الرسول، وخرج تاجراً بمالها مع غلام لها اسمه ميسرة وحين عودتهم من رحلة التجارة أخبرها غلامها بما رأى من الرسول من كرم الأخلاق وحسنها، كما أنّها رأت أمانةً وبركةً في أموالها لم تَها من قبل، فأدركت أنه الزوج المناسب لها، وأخبرت صديقتها نفيسة بنت منيّة بما وقع في نفسها تجاه الرسول، فذهبت نفيسة إلى الرسول تَعرِض عليه الزواج من خديجة، فقَبِل وأخبر أعمامه بالأمر، وتقدموا بخِطبة خديجة له من عمّها، وتمّ العقد بينهما بحضور بني هاشم ورؤساء مضر، وكان ذلك بعد رحلة التجارة إلى الشام بشهرين. وكانت السيدة خديجة قد بلغت من العمر أربعين سنةً، وبذلك كانت أول امرأةٍ تزوجها النبي، ولم يتزوّج عليها امرأةً أخرى إلى أن توفيت وأنجبت السيدة خديجة من النبي القاسم، وقد كنّي به، وعبدالله، الملقب بالطيب الطاهر، وقد توفيا صغاراً قبل الإسلام، ومن البنات: زينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم، وقد أدركن الإسلام، فأسلمن، وهاجرن مع النبي عليه الصلاة والسلام، وتوفين قبل وفاته، إلا فاطمة؛ فقد توفيت بعده ب6 أشهر، طبقا لما ورد في كتاب أم المؤمنين خديجة الكبرى للكاتب علي مهدي. * نصرة خديجة للنبي كانت السيدة خديجة رضي الله عنها نعم الزوجة في كلّ المواقف التي تعرض لها رسول الله صلّ الله عليه وسلّم، فخفّفت عن المسلمين ما أصابهم من المحن والابتلاءات، وخاصةً ما حلّ بهم من مقاطعة قريش لبني هاشم وبني عبدالمطلب، بعدم تزويجهم أو الزواج منهم، وعدم بيعهم أو الشراء منهم، وعدم الرأفة بهم أو قبول الصُلح منهم، واستمرت المقاطعة 3 سنواتٍ، وقد تحمّلت السيدة خديجة ذلك، وصبرت مع زوجها وساندته في ذلك، وعملت على تأمين الطعام للمسلمين المحاصرين في الشِعب بمعاونة ابن أخيها حكيم بن حزام، إذ كان يُرسل الطعام إلى عمّته ليلاً. * مكانة خديجة عند الرسول صل الله عليه وسلم في كتاب أم المؤمنين "خديجة الكبرى"، ذكر أنه روى عن الرسول الأكرم صل الله عليه وآله، أحاديث كثيرة في مناقب السيّدة خديجة عليها السلام، نسلّط الضوء على بعضاً منها: 1- يا خديجة إنّ الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا. 2- والله ما أبدلني الله خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس وواستني 3- بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس 4- خير نساء العالمين: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صل الله عليه وآله. 5- خير نساء الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم "امرأة فرعون". 6- خديجة سبقت جميع نساء العالمين بالإيمان بالله وبرسوله. 7-أحببتها من أعماق فؤادي. 8-أحبّ من يحبّ خديجة. 9- لم يرزقني الله زوجة أفضل من خديجة أبدا. 10-لقد اصطفى الله عليّاً والحسن والحسين وحمزة وجعفر وفاطمة وخديجة على العالمين. * أول سيدة مصلية كانت السيّدة خديجة أول سيّدة في الإسلام تصلّي، إذ أنّه لسنوات طويلة انحصر الإيمان بالدين الإسلامي بخديجة عليها السلام، والإمام علي عليه السلام، وكان الرسول الأعظم يذهب إلى المسجد الحرام ويستقبل الكعبة وعلي عليه السلام إلى يمينه وخديجة خلفه، وكان هؤلاء الثلاثة هم النواة الأولى لأمّة الإسلام، وكانوا يعبدون معبودهم الواحد إلى جانب كعبة التوحيد. * وفاة السيدة خديجة توفّيت السيدة خديجة رضي الله عنها في السنة العاشرة من البعثة، وذلك بعد انتهاء الحصار الذي فرض على بني هاشم في الشّعب، وكانت قد بلغت من العمر حينها 65 عاما. اقرأ أيضا: مهن الصحابيات (9).. سمية بنت الخياط أول شهيدة في الإسلام