يمكن مطالعة صفحة من نصٍ بشكل سريع لاستخلاص مضمون ما، ولكن كلمة واحدة قد تُجبرك أن تتوقف لتقرأ الجملة وربما الفقرة من بدايتها بتأنى لتعرف سبب ذكرها. وبالنسبة لى «أحمر شفايف» كانت كفيلة بأن أقرأ جوابا مكونا من أربع صفحات فلوسكاب، أرسله مهندس مصرى يعمل فى السعودية، إلى خطيبته عام 1989، ويقول: «آه يا مودموزيل (…) لو مش عندك أحمر شفايف.. ابقى اشترى بفاتورة ولما أرجع أحاسبك.. لأنك حرمتينى من شفايفك الجميلة فى رسائلك.. متتصوريش بوستك حلوة وبلاش تحرمينى منها». • • • هذا الجواب هو أحد ثمانى جوابات للمهندس ذاته، اشتريتهم من سوق للأنتيكات يُعرف ب«سوق السبت»، أو «سوق سينما ديانا»، بمنطقة وسط البلد، حيث تُباع جميع الأشياء التى يمكن تصورها، وتتراوح المعروضات ما بين الكراكيب المُضحكة، وبين مقتنيات تستحق الاقتطاع من الميزانية لأقتنيها، ولتفاصيل هذه السوق حديث آخر. • • • تُمثل لى «خروجة السبت» إلى السوق متعة حتى لو لا أملك المال الكافى لأشترى كل ما يعجبنى، يكفى أن أتجول بين تلك الأشياء المهملة التى كانت فى يوم ما جزءا مهما من حياة أصحابها. ولأغراض بحثية من أجل كتابة نص أعمل عليه منذ عام، فإنى عادة أقتنى كل ما هو ورقى، مثل الصور الفوتوغرافية، والجوابات، والصحف القديمة من العهد الملكى، ومستندات شخصية وحكومية، وبعض من هذه المقتنيات لدىّ يعود إلى عشرينيات القرن الماضى. • • • عودة إلى بطلنا المصرى، خطفنى جوابه، بظرف وردى اللون، من بين مئات الجوابات والأوراق القديمة فى كرتونة ضخمة ضمن معروضات أحد الباعة أمام سينما ديانا، ثم بفض محتواه من الصفحات، اكتشفت قيمة هذا النص البديع الذى يجمع ما بين حلاوة اللغة التى مزج فيها صاحبها بين العامية والفصحى، بل والتزامه بعلامات الترقيم، وبين الفصاحة والجرأة فى التعبير عن مشاعره واحتياجاته. • • • قررت تفتيش الكرتونة بالكامل حتى أعثر على جوابات هذا الرجل المتشرذمة، فنزلت على ركبتى وانحنيت فوقها، وبعد ما يقرب من ساعتين، كنت قد رصصت الجوابات وفقا لأصحابها، اللعنة على «الوسواس القهرى» الذى يدفعنى إلى إعادة تنظيم الأشياء، ما علينا. فى النهاية حصلت على ثمانية جوابات تخص المهندس، وعشرة جوابات تخص رجلا مصريا آخر وبالمناسبة مهندس هو الآخر واغترب فى أوائل الثمانينيات فى العراق وهذه حكاية أخرى. • • • على مدى أيام لم أمتلك الشجاعة لأقرأ الجوابات بتفاصيلها، كانت مشاعرى مختلطة ما بين الحزن لمصير مقتنيات شديدة الخصوصية ملقاة بهذا الشكل على الرصيف، والخوف من أن يحدث لى شىء مشابه خاصة أنا أمتلك أرشيف صور عائلتى التى تعود إلى عشرينيات القرن الماضى بالإضافة إلى أرشيف صورى الشخصية وغيرها من الأوراق، وأخيرا فضولى لقراءة النصوص التى أثبتت من الوهلة الأولى فرادتها. • • • تشجعت وبدأت بترتيب الجوابات زمنيا، كان الأول يعود إلى عام 1989، والأخير لعام 1991، ومع القراءة المتأنية، تأكد لى امتلاك هذا المهندس المغترب لحس ساخر مميز لا يقل عن حسه الرومانسى الملتاع، فهو يعاتب خطيبته على عدم كتابتها الجوابات باستفاضة، ويقول: حبيبة قلبى/.. ردا على رسالتك المؤرخة 1989/12/1: «.. طالما الخطاب أقصد الورق اللى بتكتبى عليه مسطر من الجهتين لماذا لم تكتبى الجهتين؟ ولا خلاص مفيش عندك كلام تقوليه!! متزعليش من كلامى ده بس أنا عايز أعيش معاكى وأنا هنا هذا صعب». ولكنه على الرغم من العتاب الرقيق، زين الصفحة الأخيرة برسم يدوى لقلوب وقبلات. • • • جدير بالذكر أن خط بطلنا منمق وجميل، والمثير للاهتمام هو أن لوالدىّ خطا منمقا وجميلا، وكانت أمى تقرعنى دوما على ما تخطه يدى من «نبش الفراخ»، وتخبرنى إن كانت جدتى على قيد الحياة لكانت شعرت بالخزى وألقت بدفاترى فى الشارع، ويبدو غضب أمى مبررا لأن خطى يشبه الطلاسم، حتى أنا أعجز أحيانا عن فكها، ولكن القدرة على الكتابة بشكل أنيق لدى هذه الأجيال التى سبقتنا، مرتبط بالتعليم واهتمام المعلمين بجودة الخط، وهو ما لم أحصل عليه أنا، وكثير من أبناء جيلى، هكذا أتصور. • • • حكاية بطلنا المغترب فى السعودية بعيدا عن عروسه، على الرغم من رومانسيتها، إلا أن لها بالطبع أبعادا اجتماعية وإنسانية ملفتة، لها علاقة بتشكك الخطيبة فى قدرته على الإيفاء بالتزاماته، خاصة أنه يتولى رعاية أسرته ماديا بشكل ما، فيكتب لها: «متشغليش بالك بأى شىء سوى الاهتمام بصحتك يعنى تأكلى كويس وتنامى كويس وكمان متفكريش كتير سيبى الأمور تمشى زى ما ربنا عايزها.. ومتنسيش تسلمى على أصحابك فى الشغل». • • • ولكن بدت المعاناة الحقيقية مع منتصف عام 1990، عندما كان يجاهد من أجل أن يصل خطابه إلى خطيبته عن طريق إرساله برفقة أصدقاء فى طريق عودتهم إلى مصر، ولكن من خلال المرور بعدة دول مختلفة، وذلك بسبب ما فرضته الأجواء الأمنية والسياسية بعد غزو العراق للكويت. ثم فى رسالة مؤرخة ب 1990/10/20 لم تكن موجهة إلى حبيبته أو خطيبته كما اعتاد بدء رسالته، وإنما ب«زوجتى الأمورة وحبيبة قلبى»، ضحكت وفرحت من أجلهما، وشعرت أن هذا النص الحى يشكل كنزا يمكننى العودة إليه مرات ومرات لاكتشاف المزيد، تغيرت لهجة المهندس مع زوجته حيث غلب طابع جاد على كتابته، خاصة فيما يخص الإجراءات وتجهيزات الشقة فى السعودية لاستقدامها، ويقول: «أخدت سلفة من الشركة.. لأن السكن حاليا غالى جدا علشان السكان المهاجرين من الكويت وخلافه.. لكن متشغليش بالك خالص سوف يتم عمل أوراق الاستقدام فى أقرب وقت». • • • وتستمر طرافة المهندس حتى وإن كانت لتناول موضوع يبدو جادا، فيقول: «مقولتليش رأيك إيه فى حضورك عادى بدون فستان الفرح صحيح العملية دى بقت بلدى قوى ويكون هناك تعليقات مش ظريفة ممكن تضايقك من العاملين بالمطار بالسعودية هنا هذا بالإضافة إلى الغلاسة ممكن يقولك اقلعى الفستان قبل دخولك البلد وحاجات كده متزعليش يا حبيبتى بكرة أعملك اللى إنتى عايزاه». • • • أكثر ما أثر فىّ بشكل إيجابى من قراءة هذه الجوابات، هو معرفة السردية الأخرى لاغتراب الرجال المصريين فى هذه المرحلة من التاريخ، فعادة تتصدر قصص كفاح الزوجات فى تربية الأبناء والحفاظ على تماسك الأسرة فى ظل ابتعاد الأب، وما تعانيه الأمهات من ضغوط نفسية ومجتمعية، ولكن على الجانب الآخر هناك أيضا رجال يشعرون بالوحدة والمرارة التى وصفها: «بكرة حضرتك تيجى بقى وترحمينى من كل الوهم والمعاناة فى حياتى العذابية دى فالحياة بدونك مملة وفعلا محتاج لوجودك جانبى لأن الوحدة فى هذا البلد صعبة جدا جدا والغربة مش سهلة». • • • بشكل شخصى أحب كتابة الجوابات، وربما فى زمن آخر لكانت هوايتى هى الجلوس على المكتب وكتابة عشرات الجوابات لمن أحبهم على ضوء شمعة لهيبها يطقطق مُنذرا بنهايتها، ولكن بعد مطالعة هذه الجوابات اكتشفت المجهود الذى تحتاجه هذه الوسيلة للتواصل ولتبادل الأخبار، فهذا البطل، كان يستيقظ فجرا لأن دوام عمله يبدأ فى السابعة، ويجلس ليكتب أربع صفحات وأحيانا أكثر، بل ويقوم برسم وتلوين بعض الأشكال، ويجاهد بحثا عن وسيلة تصل بها تلك الجوابات بأمان فى أيام الحرب. ختاما، سلامى للجميع بدون ذكر أسماء، كما يُنهى المهندس جواباته.