لا تخلو منازلنا من الأوراق والكراتين، بعضنا يبقيها دون استخدام والبعض الآخر يُلقى بها فى القمامة، لكن هناك فئة مميزة نظرت إلى تلك المهملات من منظور إبداعى، فسعت وبحثت وتعمقت حتى اهتدت لفن إعادة التدوير، لتحول قطع الورق والكراتين الصامتة لمجسمات فنية فريدة، وتبُعث فيها الروح من جديد، لتخرج لنا فى شكل المساجد والحيوانات والطيور والمستلزمات المنزلية والديكورات، بعض هؤلاء المبدعين فضّلوا الاحتفاظ بما صنعوه لأنفسهم والبعض الآخر قرر المشاركة فى معارض ليبيع ما ينتجه من الورق والكراتين ليجد لنفسه مصدر دخل جيدًا من أشياء يلقى بها غيره فى سلة المهملات.
أعمال من الورق
منذ صغره يحب يحيى الأعمال الفنية، يرسم على الورق والزجاج ويضع بصمته فى الأشياء المحيطة به، إلى أن التحق بكلية الهندسة، قسم عمارة، وانخرط فى دراسته، ثم تخرَج وبات يزاول عمله بصفته مهندسًا معماريًا، حيث كان يمارس الرسم الهندسى فقط، مضت سنوات وانتقل إلى المملكة العربية السعودية، وكان ينتهى من عمله فى الخامسة مساءً فقرر أن يستثمر وقت فراغه ويعود إلى موهبته من جديد.
بدأ «يحيى عبدالقادر» 58 عامًًا، مشواره فى فن «الأوريجامى» منذ 8 سنوات، وهو فن طى الورق، يقول: «لإنى مش غاوى قهاوى وتضييع وقت، شغلت نفسى بهوايتى القديمة وبدأت أنفذ أشياء جميلة، وكان المبدأ بتاعى إن الأعمال الفنية تكون من أشياء بسيطة، وكان أكتر شيء متوفر الورق، عشان كده كل أعمالى من الورق سواء المستعمل أو الجديد، الأبيض والملون».
أنتج المهندس المعمارى أعمالًا فنية من الورق مثل الحيوانات والمُعدات وال «3 دى» الذى يتكون من أجزاء من المثلث وتُنتج منه الفازات وغيرها: «أنتجت حاجات من فن الكويلينج وده من شرائط الورق ويتم لفها لعمل تابلوهات، وإعادة التدوير وهى أعمال فنية بالكارتون أو الورق أو علب الكانز المستعملة، وفن فسيفساء الورق لعمل لوحات فنية مجسمة من الورق»، مؤكدًًا أنه يستخدم الورق والغراء والأقلام الرصاص والألوان وأدوات لف الورق ومسطرة للقياس ومقصًا ومشرطًا لإنتاج أعماله: «عمل الأوريجامى ممكن ياخد ساعة، لو 3 دى أوريجامى فأغلب الوقت بيكون فى عمل الوحدات اللى هى المثلث وبياخد يوم أو يومين حسب الشكل، لو الوحدات جاهزة ممكن يأخد ساعتين أو تلاتة، وأعمال الكويلينج بتاخد نفس الوقت».
قام «يحيى» بعرض أعماله للبيع لاقت إعجاب كثيرين، مشيرًًا إلى أنه يحرص على الاحتفاظ بنسخة من كل عمل يبيعه: «ببيع من خلال الصفحة بتاعتى على الفيسبوك، لكن المشكلة إن فى ناس مش بتقدر الفن ولا المجهود المبذول فيه وكمان مصاريف التوصيل بقيت غالية».
مطبخ كرتون
تزوجت «سهير موسى» 28 عامًا فى شقة صغيرة، وكانت فى حاجة إلى أشياء كثيرة لكن بأقل تكلفة ممكنة، لذا قررت أن تتجه إلى إعادة تدوير الكرتون، وبالفعل أنشأت أول عمل لها وكان مكتبة لزوجها، حيث إن طبيعة عمله تحتاج إلى الكثير من الكُتب، تقول: «بدأت أغير فى الشقة كلها من كرتونة الغسالة بتاعة جهازى، دلوقتى كل ركن فى الشقة فيه حاجات أنا عملاها، عملت عربية فيها ركن مشروبات فى رمضان وعملت جزامة وتابلوهات ورف الفراشة ويافطة مكتوب عليها بيت العز وكلها كرتون».
درست «سهير» اللغة العبرية فى جامعة الأزهر والآن هى فى تمهيدى الماجستير بكلية الألسن، توالت إبداعاتها فى إعادة تدوير الكرتون، وقامت بعمل مطبخ من الكرتون لطفلتها الوحيدة ذات ال 4 سنوات أهدته لها فى عيد مولدها: «كل حاجة بعملها عاملة بيها فيديوهات على قناتى على يوتيوب عشان الناس مكنتش مصدقة إن كل ده مصنوع من الكرتون، عملت مكتبة ومراية، وكان عندى طاسة محروقة عملت بيها ساعة شغالة مش ديكور، إيد مقشة اتكسرت عملت منها حامل مناديل بالكارتون وإيد المقشة».
تؤكد المرأة العشرينية أنها فى البداية كانت تصنع الأشياء من منظورها ولكن بعد البحث وجدت أنها صناعة كبيرة جدًا تهتم بها فرنسا: «بدأت أتابعهم وأتعلم منهم وكوّنت صداقات مع ناس هناك، بستخدم الكرتون والكاتر والغراء وبعدها بدهن الكرتون عشان أغير شكله، الأول كنت بستخدم الكرتون المتاح بعدها لقيته بيتباع فى باب الشعرية، وبفكر فى كل حاجة قبل ما أنفذ وإزاى أخفى حواف الكرتون والتفاصيل والمقاسات».
تضيف أن ابنتها تأثرت بما تقوم به حتى إنها بدأت تخترع أشياء من الكرتون رغم صغر سنها: «دايمًا معاها مسطرة وقلم بتخطط معايا، أخدت كرتونة فضلت تشاورلى أقفلها ولقتها دخلت جوه عملتها بيت بتاعها وبتفضل تقولى دايمًا إزاى هنغير فى ديكور الأوضة بتاعتها».
البقال المبدع
فى قرية «المهدية» التابعة لمركز ههيا بمحافظة الشرقية، يقع دكان «محمد فتحى الجرجاوى» الذى يعمل فنانًا تشكيليًا، كان الشاب الثلاثينى محاطًًا بالكرتون طيلة الوقت، الأمر الذى دفعه إلى التفكير فى الاستفادة منه، بدأت رحلته مع الكرتون فى 2011، فمنذ صغره وهو شغوف بالفن والرسم التشكيلى: «فكرت أحول رسم موضوع ثورة 25 إلى مجسم صغير بالكرتون، وبدأت أنفذ ولقيت الموضوع ممتع لى، ومن هنا بدأت الانطلاقة، والشغل الدائم على الموهبة والتطوير، وبدأت أبنى اسمى ومدرستى الخاصة فى مجال فن تشكيل الكرتون والمجسمات».
حصل «محمد» على بكالوريوس تجارة، وقرر تكريس وقته وجهده لإعادة تدوير الكرتون والتعميق فيه: «مكنش فى مصدر أتعلم منه فاعتمدت على التعليم والتطوير الذاتى، وعملت قناة على يوتيوب بعلم فيها الناس، وقدرت أعلم نفسى من خلال الشغل والتجربة»، مؤكدًا أن هذا الفن غير منتشر فى موطنه مما دفعه إلى استكمال مشواره فيه والإصرار للوصول إلى مرحلة الاحتراف: «كان فى ناس بتتريق على الفن لكن الوضع اتغير بعد أول لقاء تليفزيونى طلعت فيه وشاركت فى معارض كتير واتكرمت، كل معارض احتفالية هيئة قناة السويس وقصر ثقافة الإسماعيلية والجيزة والأوبرا وساقية الصاوى لكن الفن نفسه مفيش معارض مخصصة ليه».
وأوضح أنه كان دائمًا يبحث على أفضل الخامات لاستخدامها فى أعماله: «كنت بستخدم أى كرتون، دلوقت بختار الأفضل والأجمد عشان عمره يبقى أطول، وأستخدم دهانات للمحافظة على العمل وزيادة العمر، بستخدم المقصات بأشكالها، والقطرات فى أحجامها علشان التفريغ ومسدسات شمع وبالطبع بستعمل كراتين الشيبسى والكراتيه، وفى أعمال عملتها قعدت لشهور ولسنين معايا»، مشيرًًا إلى أن هناك اهتمامًا بالفن لكن دون دعم، ويضيف: «فى محبة شديدة بينى وبين أعمالى فبيكون صعب عليا أبيعهم لكن فى أعمال بعملها فى الأفراح للبلد بفلوس».
عاشقة المجسمات
الرسم كان طريق «روان سرور» صاحبة ال 20 عامًا إلى عالم الورق، فهى محبة للهاند ميد منذ نعومة أظافرها وإعادة تدوير الأشياء، منذ 4 سنوات أرادت صنع سيارة لصديق مقرب لها فلم تجد شيئًٍا متوفرًا حولها سوى الورق، بدأت تشاهد الفيديوهات لتتعلم كيفية صناعتها وهنا كان اللقاء الأول بينها وبين فن «الأوريجامى»، تقول: «الفيديو شدنى وفيديو جاب فيديو كنت منبهرة حقيقى بالفن وخصوصًا إنه من ورق وبدأت أتعلم من وقتها والحقيقة إنى معملتش العربية والصديق كمان مبقاش موجود لكن لولا إنى فكرت بالطريقة دى مكنتش هتعرف على الفن».
بات كل مجسم تصنعه الفتاة العشرينية صديقًا لها، بعدما رحل كل من كانت تعرفهم: «مجسماتى ولادى وأصدقائى وحياتى الحقيقية، وفى 2019 قررت أحول شغلى إلى مشروع وسميته عالم الورق اللى قدرت ألاقى فيه الأمان والفرحة والاسم ده اخترته عشان كان كل تفكيرى إزاى أوصل للناس الورق ومجسماتى بالنسبالى إيه».
شاركت «روان» فى 3 معارض وكان بينها معرض يشهد أكبر تجمع للصناع فى مصر: «كان فى أكتر من 200 ميكر، خدت فيه المركز التالت، ومكنتش متخيلة إنى هوصل لكل ده، المجسمات بقوا صحابى وحلمى وعيلتى وحياتى وإن شاء الله أتمنى إنى أعمل براند باسم عالم الورق لإنى حقيقى لقيت نفسى وسط الورق».
مسجد من الكرتون
موهوب بالفطرة لكنه اكتشف موهبته صدفة، حينما قام بإنشاء طيارة من علب السجائر، وحينما عرضها على رئيس الوسائل التعليمية لاقت إعجابه وطلب منه أن يصنع عملًا من الورق يشارك به فى احتفالية ذكرى حرب 6 أكتوبر، وبالفعل استطاع أن يجسد الحرب بالورق فصنع الدبابات والطائرات والصواريخ لينتج أول مجسم له بطول وعرض 3 أمتار.
يعمل «أيمن محمد قبيصى» 40 عاما، أخصائى وثائق ومكتبات، تخرج فى كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر: «شاركت بالمجسم فى المعرض والمستشار العسكرى كان موجودًا وبعد ما خلصت الحفلة مخدتش شهادة تقدير ولا اتذكر اسمى وده أثر فى نفسيتى أوى وبنتى كمان زعلت، خدت الموقف حافز ليا وقررت أعمل حاجة يتحكى بيها، عجبنى مسجد على النت وكان صعب التنفيذ جدًا بس قررت أعمله من الكرتون، خلصته وشاركت بيه فى معرض تربية فنية وعملى غطى على كل الأعمال.. واليوم ده قررت موجهة التربية الفنية إنى أحول للقسم الفنى وإنى أجمع مدرسين من القسم وأعلمهم بس رفضت لإنى مش متخصص وهعلم ناس متخصصة مكنوش هيتقبلوا ده».
لاقى المسجد إعجاب الجميع حتى أن مشيخة الأزهر فى معرض لها دعته للمشاركة فى المعرض: «حصلت على شهادة تقدير وكانت حافزًا قويًا جدًا إنى أعمل أى حاجة وفعلا عملت أعمال لدرجة إنى عاوز معرض لوحدى وكلها من الكرتون واللى ساعدنى أكتر إنى عندى سوبر ماركت والكراتين متوفرة وطُلبت فى كذا معرض بالاسم وبنشر أعمالى فى جروبات وبتعجب ناس من برا مصر وبيعت أعمالى للخارج وقبضت بالإسترلينى ودى كانت محطة مهمة جدًًا فى حياتى ولزوجتى وأولادى».
أعمال فرعونية
كرست «انتصار أحمد» 52 عامًا حياتها من أجل أبنائها حتى نضجوا وصاروا أبطالًا للجمهورية فى الكونغ فو ثم تزوجوا، وصارت متفرغة لهوايتها التى تحبها كثيرًا، حيث كانت مهتمة بإعادة تدوير الأشياء القديمة لتحولها إلى أشياء جمالية تزين بها منزلها منذ 6 سنوات، لكنها مؤخرًا اتجهت إلى إعادة تدوير الورق والكرتون معًا: «كملت رسالتى مع أولادى ومتفرعة لمشغلى وبقضى فيه أحلى وقت». أنشأت المرأة الخمسينية قناة خاصة بها على يوتيوب تقدم حلقات متنوعة عن فن إعادة التدوير وتجميل الأشياء التالفة كما قامت بتصوير حلقات للتليفزيون: «الحاجات اللى بعملها بقدمها هدايا أو ببيعها فى معارض وأحيانًا بزين بيها بيتى، أو بقدمها لجيرانى وأحبابى، عملت مجسمات فرعونية من الورق والكرتون ومستلزمات كتيرة للمنزل وحاجات للديكور، بستخدم الغراء ومسدس الشمع وبجيب إكسسوارات واسترسات وأى خامة ممكن أدمجها مع الكرتون والورق، وأى عمل ممكن يأخد منى ساعتين أو أربع ساعات، وممكن لو عمل ليه كذا مرحلة ياخد يومين لحد ما يجف».