تستأثر الهند والصين بكل الاهتمام الإعلامى نظرا لما حققتاه من إنجاز اقتصادى مبهر، لكن هناك قصة عالمية أخرى للنمو يسهل تجاهلها: أفريقيا. فى عامى 2007 و2008 حققت دول أفريقيا الجنوبية ومنطقة البحيرات العظمى فى كينيا وتنزانيا وأوغندا وحتى القرن الأفريقى المبتلى بالجفاف ناتجا محليا إجماليا يوازى ما حققته الدولتان القويتان فى آسيا. وفى العام الماضى، وفى خضم الركود الاقتصادي العالمي، حققت القارة نموا بمقدار 2 بالمائة تقريبا، وهو ما يعادل النمو فى الشرق الأوسط تقريبا، ويتفوق على كل الدول الأخرى ما عدا الهند والصين. وفى السنة الحالية وعام 2011، سوف تنمو أفريقيا بمعدل 4.8%، لتحقق أعلى معدل خارج آسيا، متفوقة على دول تحظى باهتمام كبير كالبرازيل وروسيا والمكسيك وأوروبا الشرقية، وذلك حسب تقديرات لصندوق النقد الدولي تمت مراجعتها حديثا. وفى الواقع، وبحسابات قائمة على دخل الفرد، فإن الأفريقيين بالفعل أغنى من الهنود، فيما تتمتع نحو 10 دول أفريقية بدخل قومي إجمالي يفوق الصين. المفاجأة الأكبر أن معظم هذا النمو ليس مدفوعا بمبيعات المواد الخام مثل النفط أو الألماس، بل يتحقق على يد السوق المحلية المتنامية، وهو الأكبر خارج الهند والصين. ففى السنوات الأربع الماضية، شكل الارتفاع فى الاستهلاك الخاص للبضائع والخدمات ثلثى النمو فى الناتج المحلى الإجمالي الأفريقى. وقد يصل عدد أفراد الطبقة الوسطى المتنامية بسرعة فى أفريقيا إلى300 مليار شخص، من مجموع مليار شخص هم سكان القارة، حسب خبير التنمية فيجاى ماجاهان، مؤلف كتاب (نهوض أفريقيا) الصادر عام2009. ورغم أن القليل منهم يحقق دخلا قابلا للإنفاق والتوفير كما هو الحال فى آسيا والغرب، إلا أن هؤلاء المحاسبين والمعلمين وخادمات المنازل وسائقى التاكسى وحتى باعة الشوارع هم محرك الطلب على البضائع والخدمات مثل الهواتف الخلوية وحسابات البنوك والأغذية الغالية والعقارات. وفى الواقع إنه فى أكبر 10 اقتصادات فى أفريقيا، يشكل قطاع الخدمات 40 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالي، وهو ليس أقل بكثير من الهند، حيث تبلغ هذه النسبة 53% فى الهند. يقول جراهام توماس، مدير الاستثمار الرئيسي فى مجموعة بنك ستاندرد، الذى يعمل فى 17 دولة أفريقية: «تتلخص قصة أفريقيا الجديدة فى الاستهلاك». ويمكن عزو جانب كبير من النزعة الاستهلاكية لهذه الطبقة إلى قوى خارجية: الأنماط التجارية الناشئة، خصوصا من الطلب المتزايد القادم من الصين والابتكارات التكنولوجية فى الخارج اللذين يحفزان الإنتاجية المحلية والنمو مثل خطوط الألياف البصرية التى تكلف المليارات من الدولارات والتى تركب لتصل بين أفريقيا والعالم المتقدم. وبعض التغيرات الأخرى محلية ومتعمدة. على الرغم من سمعة أفريقيا الراسخة كمنطقة مبتلاة بالفساد وسوء الحكم، إلا أن جزءا كبيرا من القارة قد حقق النهضة الاقتصادية بهدوء من خلال توفر استقرار سياسى غير مسبوق. وكان من الحكومات، استجابة منها للتحفيز من قبل المستثمرين المتلهفين، أن خففت القيود على الصناعات وطورت البنية التحتية. وبالمحصلة تتباهى دول مثل كينيا وبوتسوانا الآن بوجود مستشفيات يملكها القطاع الخاص ومدارس خاصة والطرق التى يدفع مستخدموها رسوما والتى هى فى الحقيقة آمنة للعبور. وقد توصلت دراسة أجراها برنامج تابع للبنك الدولى، عنوانه تشخيص واقع البنية التحتية فى الدول الأفريقية، إلى أن التحسينات التى أجريت على البنية التحتية فى قطاع الاتصالات فى أفريقيا قد أسهمت بنسبة 1% فى نمو حصة الفرد من الناتج المحلى الإجمالى، وهى تفوق ما تحقق من خلال التغييرات التى حصلت فى السياسات النقدية أو المالية. وكذلك ارتفعت قيم أسهم شركات الطيران المحلية التى خضعت للخصخصة أخيرا، إلى جانب شركات الشحن والاتصالات. وكذلك تزايدت الأعمال الريادية فى الوقت نفسه، مدفوعة فى جزء منها بتدفق العمالة الماهرة العائدة. فكما عادت موجات من المغتربين إلى الصين والهند فى التسعينيات من القرن الماضى لتبدأ أعمالا أدت بدورها إلى جذب المزيد من المواهب ورءوس الأموال، هناك الآن إشارات على أن الشتات الأفريقى من أصحاب الأعمال الريادية سوف يساعدون فى عملية التحول التى تشهدها القارة. ورغم أن هجرة العقول لا تزال مشكلة مزمنة فى بلدان مثل بوروندى ومالاوى،إلا أن الاقتصاديات الأنشط فى أفريقيا مثل غانا وبوتسوانا وجنوب أفريقيا قد بدأت تشهد عودة غير مسبوقة للعقول الموهوبة. وحسب بعض التقارير فإن نحو 10 آلاف مهنى ماهر قد عادوا إلى نيجيريا فى العام الماضى، فيما ارتفع عدد المتعلمين الذين يبحثون عن وظائف فى أنجولا بمقدار 10أضعاف، ليبلغ 1000، فى السنوات الخمس الأخيرة. ومن العائدين بارت نناجى الذى تخلى عن وظيفة أستاذ جامعى برتبة بروفيسور فى جامعة بيتسبيرج وعاد إلى نيجيريا عام 2005 ليدير جيوميتريك باور، وهى أول شركة توليد طاقة مملوكة من القطاع الخاص فى أفريقيا السوداء. وسوف تصبح محطة توليد الطاقة البالغة تكلفتها 400 مليون دولار وبسعة 188 ميجاوات فى خريف هذا العام المزود الوحيد بالكهرباء لمدينة أبا التى يقطنها مليونا نسمة وتقع فى الجنوب الشرقى لنيجيريا. أما أفام أونييما خريج كليتى القانون فى جامعتى هارفارد وستانفورد والبالغ من العمر 30 عاما، فقد رفض عروضا بمئات الألوف فى شركات قانونية ليؤسس مستشفى خاصا من أحدث طراز وتكلفة 50 مليون دولار، فيه جانب خيرى، حيث يخدم الفقراء فى جنوب شرق نيجيريا. ويعتقد الكثير من الخبراء أن أفريقيا بما تتمتع به من قاعدة مستهلكين اكتسبت مؤخرا نكهة قوية جديدة مؤهلة لتصبح الهند القادمة قريبا، والفضل يعود فى ذلك إلى عملية التمدين المحمومة وذاك الشكل من الطفرة فى الخدمات والبنية التحتية الذى أحدث التحول فى شبه القارة الآسيوية قبل 15 عاما. وكما فعلت الهند ذات يوم عندما سخرت العدد المتزايد من العمالة الرخيصة من بين سكانها، فإن أفريقيا مهيأة لتحقق مكاسب مع تسارع نمو مدنها الكبيرة. والقارة منذ الآن تفتخر بأعلى معدل تحول للمدنية فى العالم، والذى يحفز النمو من خلال التصنيع وتوافر الحجم. ونجد اليوم أن ثلث سكان أفريقيا فقط يسكنون فى المدن، لكن هذه الفئة تولد 80 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى، حسب مركز المستوطنات البشرية التابع للأمم المتحدة. وفى السنوات ال30 القادمة، سيكون نصف سكان القارة يسكنون فى المدن. ولا تبدو العلاقة بين الطبقة المستهلكة والتمدين أوضح مما هى عليه فى لاجوس بنيجيريا، وهى مركز مدنى ضخم يقطنه 18مليون نسمة وتتمتع بمعدل نمو متسارع بمستوى تشونجكينج أو مومباى. وفى فيكتوريا آيلند، وهو المركز التجارى للمدينة، نجد العقارات باهظة الثمن بمستوى مانهاتن. وأينما نظرت تجد إنشاءات تتراوح بين الشقق الخاصة وبنايات المكاتب التجارية والطرق، وحتى مدينة جديدة قريبة فى طور الإعمار تمتد من طرف البحر سيسكنها نصف مليون من البشر. وقد استغل أليكو دانجوته، أغنى رجل أعمال ريادى فى أفريقيا، الثقافة الاستهلاكية السائدة محققا ثروة صافية تبلغ 2.5مليار دولار، حسب مجلة فوربس. وترتكز إمبراطوريته التى بدأت عام 1978باستيراد بضائع من بينها أغذية الأطفال والأسمنت والسمك المجمد، على النمو المحلى المتزايد، حيث ينتج الأسمنت المستخدم لبناء مجمعات التسوق والمكاتب التجارية ويؤجر وحدات سكنية راقية ويصنع النودلز والطحين والسكر ويتوسع الآن نحو الخدمات مثل شبكات الجيل الثالث من الأجهزة الخلوية والنقل. يقول دانجوته البالغ من العمر 53 عاما: «لا يوجد مكان لكسب المال أفضل من نيجيريا. هذا أفضل سر مكتوم فى العالم». لم يعد الأمر كذلك.. فقد توصلت دراسة حديثة قام بها الخبير الاقتصادى فى أوكسفورد بول كوليير إلى أن العائد على رأس المال فى 954 شركة مساهمة عامة أفريقية فى الفترة ما بين 2000 إلى 2007 قد زاد على نظيراتها فى الصين والهند وفيتنام أو إندونيسيا بنسبة 65% بالمعدل، وذلك لأن تكاليف العمالة ترتفع بشكل حاد فى آسيا. أما معدل هامش الربح فى هذه الشركات فقد زاد بنسبة11بالمائة عن نظيراتها فى آسيا أو أمريكا الجنوبية. وبالمحصلة نجد أن شركات أجنبية متعددة الجنسيات مثل «يونيليفر» و«نستله» و«سويسبورت إنترناشونال» قد أعلنت عن بعض أفضل أرباحها فى أفريقيا. وعليه، فعلى الرغم من أن حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة قد تراجع بنسبة 20 بالمائة عالميا عام 2008، إلا أن تدفق رأس المال السنوى إلى أفريقيا ازداد فى الواقع بنسبة 16بالمائة ليبلغ 61.9 مليار دولار، وهو رقم قياسى، حسب تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. بل إن الشركات الصينية تفكر الآن بتعهيد صناعاتها الأساسية فى أفريقيا. ويقوم البنك الدولى حاليا بمساعدة الصين فى تأسيس منطقة صناعية فى إثيوبيا، وقد تكون الأولى من المراكز الشاطئية التى من شأنها أن تنشر المناطق الحرة مثل تلك التى حققت انفتاح الاقتصاد الصينى فى الثمانينات من القرن الماضى. ومع ذلك تظل أفريقيا على حدود الأسواق الناشئة.. فعلى الرغم من مكاسبها، فإن صعوبة وكلفة إدارة أعمال هناك هى الأعلى فى العالم، حسب بيانات صندوق النقد الدولى. وإذا ما أضفت إلى ذلك الفساد المستشرى حيث تطلق منظمة الشفافية الدولية وصف «متفشى» على 36 من أصل 53 دولة أفريقية فلن تعجب أن أفريقيا تعد مكانا مسموما لا يصلح للأعمال. لكن رئيس البنك الدولى روبرت زوليك يقول إن المستثمرين فى المشاريع طويلة الأمد أدركوا فى أعقاب الأزمة الاقتصادية أن «الأسواق فى الدول المتقدمة لها مخاطرها الكبيرة أيضا». وكما هو حال الصين والهند، فإن أفريقيا تستغل هذه الحقيقة.. وربما بشكل أفضل من أى منطقة أخرى.. وهى نموذج على نظام عالمى جديد تجد فيه الأمم الأفقر وسيلة للاندفاع إلى الأمام.