جاء النصر في يوم النصر، وتأكد أن يوم السادس من أكتوبر هو بوابة لسعادة المصريين واستعادة حقوقهم التاريخية، ففي اليوم الذي نحتفل فيه بتحرير الأرض من العدو وخوض رجالنا حربًا شريفة، جرت بعد نحو اثنين وخمسين عامًا معركة شريفة أخرى وحققنا فيها نصرًا من نوع مختلف، فوز الدكتور خالد العناني بمنصب المدير العام لليونسكو، كأول مصري وعربي يصل إلى قمة الهرم الثقافي للأمم المتحدة، إنها لحظة تجمع الرمزية بالتاريخ، والإرادة بالإنجاز، وتؤكد أن مصر حين تعقد العزم تمضي إلى هدفها بثبات. يحدث ذلك بينما تستعد القاهرة، بعد أسابيع قليلة، لفتح أبواب "المتحف المصري الكبير" أمام العالم، وهكذا تتجاور "ذكرى النصر" العسكري مع "نصر للمعرفة"، وتتسع الراية الواحدة لتضم ريادتين سياسية وثقافية، ليس الأمر مجرد تتابع مناسبات، بل هندسة لمعنى أوسع لموقع مصر: بلد يحمي حدوده ويصون ذاكرته، ويضيف إلى رصيد الإنسانية ما يجمع ولا يفرق، إن اقتران الحدثين يمنح الخطاب المصري في العالم قوة ناعمة مضاعفة، فالمتحف مشروع رمزي ومعرفي واقتصادي، وفوز العناني شهادة ثقة دولية بقدرة مصر على قيادة الأجندة الثقافية عالميًا. هذا الفوز مختلف لثلاثة أسباب رئيسة، أولًا: لأنه يكرس حضورًا عربيًا غير مسبوق في مؤسسة تأسست عام 1946 ولم تدرها شخصية عربية من قبل، ما يعني أن ملفات منطقتنا — من التعليم والثقافة إلى العلوم والاتصال — ستكون على طاولة القرار من داخل الغرفة لا من عتبتها. ثانيًا: لأنه يعيد توزيع الصوت داخل المنظومة متعددة الأطراف، بما يعزز التوازن الجغرافي واللغوي ويمكن الجنوب العالمي من التعبير عن رؤاه في قضايا التنوّع الثقافي وحماية التراث والتنمية المستدامة. ثالثًا: لأن توقيت الفوز نفسه يضيف معنى مضاعفًا، فالعالم يواجه موجات متلاحقة من الأزمات — نزاعات مسلحة، تغيّر مناخي، ذكاء اصطناعي يسبق التشريعات — وتأتي قيادة من بلد عرف معنى الحضارة المبكرة ومعنى التجدد لتقترح حلولًا جامعة. ومع أن هذا التتويج بدا مفاجئًا للبعض، فإنه نتيجة مسار طويل من الإصرار المصري على الموقع الذي يليق به، فمن قبل تقدمت مصر بشخصيات مرموقة مثل إسماعيل سراج الدين، والفنان فاروق حسني، والسفيرة مشيرة خطاب، لم تكلل تلك المحاولات بالنهاية المرجوة لاعتبارات سياسية وتشعبات تصويتية، لكنها زادتنا يقينا بأحقيتنا، وبنت رصيدا من العلاقات والخبرات داخل أروقة المنظمة، واليوم يكتمل المسار بمرشح يجمع بين العلم والإدارة والدبلوماسية الثقافية فهو عالم مصريات عرف الحفر في النصوص والأحجار، ووزير خبر إدارة الملفات الكبرى، ومسؤول قاد عمليات تنسيق دولية في أوقات حساسة. وتلوح أمام اليونسكو بقيادة العناني أربعة مسارات أولوية تحتاج إلى عمل متزامن، الأول: حماية التراث المادي واللامادي في مناطق النزاع، ليس فقط عبر الإدانات واللوائح، بل من خلال أدوات عملية منها خرائط رقمية محدثة، بروتوكولات طوارئ، تدريب كوادر محلية، وشراكات مع الجيوش ووكالات الإغاثة لضمان "مسارات آمنة للأثر". الثاني: التعليم بوصفه حقًا إنسانيًا ومحرّك تنمية؛ وهذا يشمل سد فجوة التعلّم بعد الجائحة، ودعم المناهج التي تراعي الهوية الوطنية وفي الوقت نفسه تنفتح على قيم المواطنة العالمية، وتوسيع الوصول للتعليم الفني والتقني والرقمي. الثالث، أخلاقيات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إذ تحتاج البشرية إلى حوكمة توازن الابتكار مع صون الكرامة والخصوصية وتكافؤ الفرص اللغوية والثقافية، حتى لا تتحول الخوارزميات إلى قوالب إقصاء جديدة، والرابع: تعزيز التنوّع الثقافي واللغوي، وصيانة حرية التعبير والفنون، باعتبارهما ركيزة لاقتصادٍ إبداعيٍ أخضر يخلق وظائف ويبني جسورًا بين الشعوب. هنا تتقدم مصر من جديد بوصفها نموذجًا يُزاوج بين الذاكرة والتجديد، من المعابد والمتاحف إلى الجامعات والمراكز البحثية وقطاع الصناعات الثقافية الإبداعية، إن أقسام اليونسكو المتعددة — من الثقافة إلى العلوم الطبيعية والإنسانية والاتصال — تجد في الخبرة المصرية حقلًا ثريًا للتطبيق، ويكفي أن ننظر إلى شبكة مواقع التراث، وحيوية الفنون، وحضور النشر والترجمة، حتى ندرك أن "أجندة العناني" يمكن أن تبني على موارد راهنة لا على وعود مؤجلة، إن الربط بين المتاحف والتعليم، وبين السياحة الثقافية والتنمية المحلية، وبين الحفظ والابتكار، قادرٌ على تحويل الثقافة من "كلفة" إلى "قيمة" ومن "ذكرى" إلى "مورد". ولا يخلو الطريق من تحديات، التمويل المتقلّب في المنظمات الدولية، ومحاولات تسييس الملفات، وضغوط الاستقطاب العالمي، لكن إدارة هذه التعقيدات ليست جديدة على مصر، لقد واجهنا ما هو أقسى، وتعلّمنا أن الصبر الاستراتيجي يسبق المكاسب المستدامة، ومن موقع المدير العام، يصبح الرهان على بناء ائتلافات مرنة، وتوسيع قاعدة المانحين، وتطوير أدوات قياس أثرٍ شفافة، عناصرَ حاسمة لتجنيب المنظمة أهواء اللحظة وإعادتها إلى رسالتها: بناء السلام في عقول البشر. إن فوز خالد العناني ليس خبرًا عابرًا، بل فصل جديد في سيرة مصرية تعرف كيف توائم بين القوة الصلبة والقوة الناعمة، في السادس من أكتوبر تعلمنا أن إرادة التحرير تُستعاد بالفعل المنظم، واليوم نتعلم أن إرادة التأثير تُصان بالمعرفة والشراكة والعقل الحر، وحين يفتح "المتحف المصري الكبير" أبوابه للزائرين، ستكون اليونسكو بقيادة مصرية ترسم سياساتٍ تُنصت للذاكرة وتُحاور المستقبل.