الصحفى جايسون فاراجو: «ما يحدث فى أوكرانيا الآن حرب ثقافية.. والدفاع عن التاريخ لا يقل أهمية عن حماية الأرض» الأوكرانيون يخبئون التحف والأعمال الفنية داخل بطانيات مقاومة للنيران القرن الحالى يشهد آثارا مدمرة على الثقافة بسبب الحروب فى سوريا والعراق وإثيوبيا ومالى وأرمينيا وأفغانستان وثّقت صحيفة «النيويورك تايمز» حديثًا تجربة أحد ناقديها الصحفيين فى زيارة لأوكرانيا فى أعقاب الغزو الروسى لمعرفة إلى أى مدى تمكن هذا الشعب من الحفاظ على هويته الثقافية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراثه وآثاره وحضارته وأعماله الفنية من براثن العدو الروسى. وقال الناقد الفنى، جايسون فاراجو، إن فور وصوله لأوكرانيا قام بزيارة كاتدرائية القديسة «صوفيا» التى يبلغ عمرها ألف عام حيث استوقفه رسم يصور قائدًا عسكريًا من حضارة القوزاق من القرن السابع عشر بلحية رمادية طويلة وحواجب مقوسة، وقد بدا متواضعًا للغاية تحت الفسيفساء الهائلة التى برزت منذ القرن الحادى عشر بعد أن أطاح المغول بمدينة كييف ثم تمكن بعدها بأعوام عديدة الاتحاد السوفيتى من الهيمنة عليها والتى فيما يبدو لازالت تبث نفس الرسالة والتى تفيد بأن الثقافة الأوكرانية لم ولن تستسلم. وذكر «فاراجو» أن تلك الأيقونة تم رسمها على ثلاثة ألواح من الخشب المعقود، تلك الألواح تمكن أفراد من الشعب الأوكرانى من تهريبها من ضاحية بوكا المُدمرة فى مدينة كييف، ومن قلب المقابر الجماعية لبوتشا، فى أعقاب الفظائع الروسية التى تم ارتكابها بحق المدنيين. وقال «فاراجو»: إنه سعد بوجود العديد فى أوكرانيا ممن شاركوه نفس الرأى بضرورة الاهتمام بالأيقونات الثقافية والحضارية التى تعبر عن الكيان الأوكرانى الآن أكثر من أى وقت مضى؛ ببساطة لأنها حرب على الثقافة، وقد وصفها أحد أمناء المتاحف فى أوكرانيا ويُدعى ليونيد ماروشاك بأنها «حرب ضد الهوية الثقافية ذاتها»، وكشف «فاراجو» عن أنه قابل العديد من الكُتّاب والموسيقيين والعلماء فى أوكرانيا ممن أدانوا الحرب بقوة، وممن نادوا بضرورة الحفاظ على التاريخ والأفكار بنفس الاستماتة فى الدفاع عن الأرض والعِرض، لاسيما مع محاولات روسيا المستميتة لمحو الهوية الوطنية لأوكرانيا، فإن الموسيقى والأدب والأفلام والآثار فى هذا البلد لم تعد دربًا من دروب الترفيه؛ بل أضحت «ساحات معارك»، وأوضح أن الحرب الثقافية الحقيقية فى عصرنا هى الحرب من أجل الديمقراطية، وقد أصبحت الثقافة الأوكرانية، فى الماضى والحاضر، خط دفاع حيوى للنظام الليبرالى بأكمله. وبيّن «فاراجو» أن الحروب جميعها من شأنها أن تعرض التراث الثقافى لأى دولة للخطر، وقال إنه فى كل زاوية فى مدينتى كييف ولفيف الآن يعكف الناس على محاولة «تخبئة» آثارهم من أى عدوان مرتقب، فأصبح على سبيل المثال هناك تماثيل مخبأة داخل بطانيات مقاومة للهب، كما خبأوا الزجاج المعشق الملون المميز لحقبة حكم «هابسبورج» أو «آل النمسا»، الذين كانوا أحد أهم العائلات المالكة فى أوروبا، وغطوا الفسيفساء السوفيتية بالخشب الرقائقى، وذلك بسبب أن الأضرار المروعة التى لحقت بالمسارح والمكتبات والمواقع الدينية (خاصة فى مدينة ماريوبول المحتلة فى جنوب شرق أوكرانيا) فى الأشهر الأربعة الماضية وحدها، شكلت مدًا مروّعًا من الدمار الثقافى خلال هذا القرن الذى شهد بالفعل آثار مدمرة على الثقافة من جرّاء الحروب التى لحقت ببلدان أخرى؛ مثل: سوريا والعراق وإثيوبيا ومالى وأرمينيا وأفغانستان. وأضاف أن المخاطر على الثقافة الأوكرانية هى أكثر من مجرد أضرار جانبية للغزو؛ بل هى محاولات محو للهوية الأوكرانية ذاتها، فبالنسبة للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، لا توجد أوكرانيا مستقلة من الأساس؛ بل هو يراها دولة سوفيتية، ويرى أن اللغة الأوكرانية هى لهجة روسية، وأن الروس والأوكرانيين هم «شعب واحد»، وأكد «فاراجو» أنه منذ عام 2014، عندما بدأت الحرب لأول مرة فى شرق أوكرانيا كانت المظاهر الثقافية لاستقلال أوكرانيا غير مبشرة على الإطلاق. ونقل «فاراجو» سؤالًا طرحه عليه الفيلسوف أنطون دروبوفيتش، الذى وصفه بكونه أحد ألمع العلماء الشباب فى أوكرانيا: «ترى كم عدد المبررات التاريخية المزيفة وراء الدافع الروسى لهذه الحرب؟»؛ فقبل قرار روسيا فى شن الحرب على أوكرانيا، كان «دروبوفيتش» يتولى إدارة المعهد الأوكرانى للذاكرة الوطنية، وهو مؤسسة رسمية مكلفة بإعادة فحص الحقبة الشيوعية بعد سنوات من محاولات إعادة «تلميع» روسيا فى أنظار العالم، وقد انتهى به الحال الآن لارتداء زى وأحذية قتالية، بل وأصبح يحضر اجتماعات أونلاين عبر تطبيق «زووم» من داخل الخنادق التى خصصها الجيش الأوكرانى، حيث يعمل الآن على توثيق التاريخ الشفهى لغزو روسيالأوكرانيا، وفى تصريحاته ل «فاراجو» قال: «إن التاريخ لا يقل أهمية عن الجيش، وإذا ما شعرت للحظة أن الأمر أقل أهمية، فسوف أتعامل فقط مع شئون مكافحة الدبابات الخاصة بى». وأشار «فاراجو» إلى أنه على الرغم من الدعاية المضادة التى تشنها روسيا على وسائل التواصل الاجتماعى وفى كل مكان من أجل محاولات التقليل من فداحة ما ارتكبته، إلا أن الحرب هنا من الناحية الثقافية البحتة كانت وحشية وإمبريالية صارخة، وقد حوّلت الثقافة الأوكرانية المعاصرة إلى مؤسسة أرشيفية حيث يكون الحفظ مهمة الجميع من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراث، وتكون الإبداعات الجديدة متجذرة فى التاريخ الذى ينكره العدو. وقال «فاراجو»: إن أوكرانيا الآن تناضل بشراسة من أجل استعادة تراثها المسلوب؛ فهناك معرض فنى بعنوان «أوكرانيا المصلوبة» أُقيم فى متحف فى كييف ضم تصميمات محاكية لثلاثة ملاجئ حقيقية تحت الأرض كانت تأوى 120 أوكرانيًا لأكثر من شهر هذا الشتاء، وأضاف أن أمناء أرشيف الأفلام أصبحوا فجأة خبراء فى تقييم مخاطر الانفجارات، وقام أمناء المكتبات برقمنة صور الحقبة السوفيتية التى تم إخراجها من ماريوبول فى اللحظة الأخيرة، كما عكفت سلطات حفظ التراث على تتبع الآثار باستخدام ماسحات ضوئية ثلاثية الأبعاد، لإنشاء سجل يوثق كل التفاصيل فى حالة الحاجة إلى إعادة بنائها وهى تقنية تم تطويرها بعد فوات الأوان وبعد أن تعرضت للتلف والدمار العديد من الكنوز فى سوريا أيضًا بسبب الحرب. وأوضح «فاراجو» أن مدينة لفيف، وهى مدينة على بعد ساعة من الحدود البولندية، أصبحت تشكل الآن مركزًا للنازحين، وبّين أن مديرة المتحف التذكارى فى سجن لونسكى، فيكتوريا سادوفا، أصبحت تعمل الآن بمثابة مرشدة سياحية تقوم بتعريف الوافدين الجدد إلى المدينة على المتحف العتيق الذى كان بولنديًا، ثم نازيًا، ثم مركز احتجاز سوفيتيًا حيث كان يحتجز عناصر من الجيش السوفييتى الأوكرانيين وأنصارهم منذ ثمانين عامًا، وقد استطاع زوار المتحف الذين أتوا لمشاهدة المتحف بعد الغزو لا سيما القادمين من مدينتى ماريوبول وخيرسون المحتلتين التعرف على معروضات القمع السوفيتى من تلك الحقبة على الفور، وقد علقت «سادوفا» على ذلك قائلة: «مرت ثمانون عامًا ولم يتغير شىء». وكشفت «سادوفا» عن تعاونها الحالى أيضًا مع المتاحف فى مدن كييف وخاركيف من أجل نقل مجموعاتهم الفنية إلى مواقع أكثر أمانًا فى الغرب، وقالت حيال هذا الأمر إنه لم يكن هناك توجيه من وزارة الثقافة أومساعدات عينية أومادية من أجل إنقاذ تلك المجموعات، ولكن بفضل الجهود الشعبية تمكنت من تهريب العديد من التحف والقطع الأثرية التى لا تقدر بثمن إلى بولندا. وفى الختام، قال «فاراجو»: إنه على الرغم من أنه فى الوقت الحالى يبدو الخطر بعيدًا عن كييف، وذلك بعد تدمير متاحف التاريخ المحلية فى المدن الشرقيةالمحتلة على غرار سيفيرودونيتسك وليسيتشانسك، إلا أنه لا توجد مدينة فى أوكرانيا تستطيع النوم بهدوء، ولا توجد مؤسسة ثقافية آمنة، وتأتى واقعة ضرب وابل من الصواريخ الروسية يوم الخميس الماضى على مدينة فينيتسا الواقعة غربى كييف خير دليل على تلك الحقيقة؛ فقد قامت الصواريخ الغادرة بتفجير إحدى القاعات الفنية قبل إحياء حفل لموسيقى البوب بداخلها ؛ ونشرت بعدها الفنانة الأوكرانية روكسولانا عبر حسابها على تطبيق «إنستجرام» أن مهندس الصوت الخاص بها كان من بين عشرات القتلى فى ذاك اليوم. وبالرغم من ذلك مع انسحاب القوات الروسية من منطقة كييف شهر أبريل الماضى، وعودة بعض المواطنين الذين لجأوا إلى الغرب، يمكن القول بدون خطأ كبير أن الحياة الثقافية استؤنفت جزئيًا فى أوكرانيا؛ فقد عادت الأوبرا تصدح بأغنية «نابوكو» الأوكرانية الشهيرة مع جوقة فيردى القومية، وعاد مؤدو الشوارع المعروفين باسم «الباسكرز» إلى عزف موسيقى «ستيفانيا»، وهى موسيقى الراب الشعبية التى فازت بمسابقة الأغنية الأوروبية هذا العام، حتى النوادى الليلية الشهيرة أصبحت تفتح أبوابها بحذر للرقص خلال النهار. ويمكن القول أيضًا إنه منذ عام 2014، بعد ثورة الميدان التى أطاحت بالرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، شهدت أوكرانيا ولادة وطنية جديدة، خاصة على الصعيد الثقافى، مما أدى إلى إنتاج جيل جديد من صانعى الأفلام الشباب والمصورين والمصممين، والموسيقيين الذين أصبحت أصواتهم أعلى من أى أبواق حرب تصدر من الجانب الروسى.