لم يعد العالم يُدار بمن يمتلكون الأرض، ولا بمن يكدسون الثروات، بل بمن ينتجون المعرفة ويسيطرون على مفاتيحها. فى هذا العالم القاسى، لم يعد التعليم رفاهية اجتماعية، ولا بندًا إنشائيًا فى خطب الحكومات، بل صار معركة وجود مكتملة الأركان، يُهزم فيها المتأخرون بلا ضجيج، ويُمحى المتخاذلون دون إعلان حرب. الفارق اليوم بين دولة تصعد وأخرى تتآكل، لم يعد فى عدد السكان ولا فى وفرة الموارد، بل فى نوعية العقول التى تُدير هذه الموارد، وفى قدرة المجتمع على تحويل المعرفة إلى قوة، والعلم إلى نفوذ، والتعليم إلى سلاح استراتيجي. وهنا يطرح السؤال نفسه، لا بوصفه ترفًا فكريًا، بل كاختبار مصيرى. كيف نصنع تعليمًا يُنقذ دولة؟ كيف نُخرج جيلا لا يحفظ ليجتاز، ولا يكرر لينجو، ولا ينتظر التعليمات، بل يفهم ويحلل ويبتكر، ويقف بثقة فى سوق عالمية لا يعترف إلا بالأذكياء معرفيا؟ هذا هو التحدى الأخطر الذى تواجهه الدولة المصرية فى لحظة فارقة من تاريخها. فنحن دولة ذات كتلة بشرية هائلة، أغلبها فى سن التكوين، وهذه الكتلة يمكن أن تتحول إلى أعظم رصيد استراتيجى، أو إلى قنبلة زمنية صامتة، إذا فشلنا فى تحويل العدد إلى نوع، والكم إلى قيمة، والزيادة السكانية إلى طاقة إنتاج لا إلى عبء اجتماعى. لا توجد دولة نهضت صدفة، ولا أمة تقدمت بالشعارات. كل التجارب الكبرى، من شرق آسيا إلى شمال أوروبا، بدأت من قرار سياسى واضح. الاستثمار فى الإنسان أولًا. فالدول لا تُبنى بالخرسانة وحدها، بل بالعقول التى تُديرها، ولا تُحمى بالقوة العسكرية فقط، بل بالمعرفة التى تُغذى قوتها الاقتصادية والعلمية. التعليم الحقيقى ليس عدد مدارس تُفتتح، ولا مناهج تُستبدل، ولا مصطلحات أجنبية تُضاف إلى اللافتات. التعليم الحقيقى هو منظومة فكرية متكاملة، تنطلق من سؤال: أى إنسان نريد؟ ثم تُصاغ السياسات والمناهج والآليات على هذا الأساس. جودة التعليم هى بيت القصيد. لكن الجودة هنا ليست ترفًا نخبويًا، ولا امتيازًا طبقيا، ولا تجارب معزولة داخل أسوار مغلقة، بل حقا وطنيا أصيلًا، يجب أن يصل إلى كل طفل مصرى، بنفس المستوى والمعايير، سواء وُلد فى قرية منسية فى أقصى الجنوب، أو فى حى راق بقلب العاصمة. فالدولة التى تقبل بتفاوت جودة التعليم، تقبل عمليا بتفاوت الفرص، وبإعادة إنتاج الفقر والجهل جيلًا بعد جيل. ولا حديث عن تعليم حديث دون الالتحام بعلوم المستقبل.الذكاء الاصطناعى، تحليل البيانات، البرمجة، الاقتصاد الرقمى، التفكير النقدى، والعمل الجماعي. ليس بوصفها مواد تكميلية، بل باعتبارها اللغة الجديدة للعالم. من لا يتقنها اليوم، سيصبح غريبا عن سوق العمل غدا. وفى قلب هذه المنظومة يقف المعلم. لا إصلاح حقيقيًا دون إعادة الاعتبار للمعلم ماديا ومهنيا ومعنويا.فالمعلم ليس موظفا يؤدى ساعات عمل، بل مهندس وعى، وصانع أجيال، وحارس العقل الوطني. تعليم رخيص لا يُنتج إلا وعيًا رخيصًا! كما أن المناهج يجب أن تتحرر من عبودية الحفظ والتلقين، وأن تنتقل من تخزين المعلومات إلى تدريب العقل على التفكير. فالمعلومة يمكن الوصول إليها بضغطة زر، أما القدرة على التحليل والربط والنقد والإبداع، فهى العملة الحقيقية فى عالم المعرفة. غير أن الخلل الأكبر يظل فى غياب منظومة صارمة لقياس الجودة والمساءلة. فالتعليم بلا تقييم مستقل، كجسد بلا نبض. لا تطوير بلا بيانات، ولا إصلاح بلا شفافية، ولا نهضة بلا محاسبة. الجودة يجب أن تُقاس فى الفصول، وفى مهارات الخريجين، وفى قدرتهم على الاندماج فى الاقتصاد الحديث، لا فى تقارير تكتب لتُحفظ فى الأدراج. مصر اليوم ليست بحاجة إلى إصلاح جزئى أو حلول تجميلية، بل إلى استراتيجية وطنية شاملة للاستثمار فى البشر؛ استراتيجية عابرة للحكومات، ثابتة الرؤية، مرنة الأدوات، تُدار بعقل علمى لا بيروقراطى، وتخضع لمتابعة دقيقة لا لمزاج سياسي. لسنا مبالغين حين نقول إن التعليم هو معركة الأمن القومى الأولى. فمن دون علم، لا اقتصاد قادر على المنافسة، ولا دولة قادرة على الصمود، ولا مجتمع محصن ضد الجهل والتطرف والانقسام. إن مصر التى تريد مكانًا محترما فى عالم الغد، لا تملك رفاهية التأجيل. البداية الحقيقية من الفصل الدراسى، ومن عقل الطفل، ومن كرامة المعلم. فالعِلم لم يعد طريقا للتقدم فقط.. بل أصبح شرط البقاء الأخير.