سلك الرئيس البرازيلى لويس إيناسيو لولا دا سيلفا منحى يساريا واضحا، موجها أنظاره نحو الأجيال القادمة والانتخابات. فبرازيليا تنفق الأموال العامة بإسراف، وترفع قيمة المعاشات التقاعدية، وأجور القطاع العام، والحد الأدنى للأجور، وكل ذلك بوتيرة تفوق وتيرة التضخم، وهذه هى بالضبط المقاربة الشعبوية التى تجنبها لولا فى السابق والتى كانت قد أعاقت تقدم الكثير من بلدان أمريكا اللاتينية. ففى محاولة لإحكام السيطرة على الاقتصاد، طالب الدولة بتولى عمليات التنقيب فى حقول النفط الشاسعة الجديدة فى عرض المحيط، وهدد بشكل علنى بالتدخل فى «فالى»، وهو ائتلاف من الشركات الخاصة المختصة بالتنقيب عن المعادن. والآن، فى رسالة قاسية إلى الأسواق، فرضت وزارة المالية ضريبة تبلغ 2٪ على الاستثمارات الأجنبية فى محاولة للحد من ارتفاع قيمة الريال البرازيلى، التى ازدادت بنسبة 27٪ مقابل الدولار الأمريكى هذه السنة. هذه الرياح المعاكسة التى تهب من برازيليا تشكل انقلابا فى مسار بلد تخطى أسوأ مراحل الأزمة الاقتصادية العالمية من دون أن يلحق به ضرر يذكر، بفضل إرث من السياسات الاقتصادية الواعية والانضباط المالى وإصلاحات هيكلية عملية متشددة طبقتها حكومتان خلال السنوات ال15 الماضية. وهذا الاتجاه الجديد الذى سلكه لولا أرسل إشارات متضاربة إلى الحلفاء والمستثمرين على حد سواء، وأثار الشكوك حول ما إذا كان بإمكان عملاق العالم النامى أن يحول مجده إلى نفوذ ويعزز ارتقاءه إلى مصاف القوى العالمية. فموقفه الذى يزداد تصلبا نابع من كبريائه ومن إحباطه فى الوقت نفسه. لولا، وهو رجل نقابى سابق ارتقى على الساحة السياسية البرازيلية من خلال تقييم فرصه بحذر، عرف غريزيا أن الرأسمالية هى الطريقة الوحيدة لتحسين الوضع الاقتصادى لمواطنيه، لكنه لم يكن يوما مرتاحا حيال ذلك. فطوال سنوات حكمه، عض لولا على جرحه وأذعن للأمر الواقع مكرها، مستغلا جاذبيته للمطالبة بالتحلى بالصبر والتضحيات الضرورية لإرساء الاستقرار فى اقتصاد معرض للخطر. وعرف منذ البداية أن حفاظ البرازيل على مكانتها منوط باعتمادها مبادئ اقتصادية خالية من المفاجآت والنتائج السريعة. الأمر اللافت أن أقدم مساعديه هو حاكم البنك المركزى إنريكى ميريليس، المتشدد فى الأمور المالية، الذى أبقى معدلات الفائدة على القروض فى البرازيل من بين الأعلى فى العالم. الآن يثنى على لولا باعتباره محافظا فى المسائل الاقتصادية. لكن من حين لآخر، كانت حقيقته تبرز، وهى تتجلى الآن أكثر من أى وقت مضى. ففى خضم الانهيار الاقتصادى، اتهم المسئولين الماليين فى العالم المتقدم «المصرفيين البيض ذوى العيون الزرقاء» وأصوليى السوق الحرة بالتسبب بالأزمة المالية. الآن وقد تجاوز العالم أسوأ مراحل الأزمة، يبدو أنه تخلى عن حذره بالكامل. فمع اقتراب الانتخابات المقررة عام 2010، يريد لولا أن تخلفه كبيرة موظفيه ديلما روسيف. لذا يجوب البلاد برفقتها لافتتاح مشاريع أشغال عامة مهمة، ويعمل على الحد من القيود المالية. ونتيجة لذلك، ارتفع الإنفاق العام وأصبح الحصول على القروض أسهل وازدادت الإعفاءات الضريبية. تدافع برازيليا عن هذا السخاء باعتباره حافزا معاكسا للتيار لمكافحة الأزمة المالية، لكن لأنه ينطوى على تكاليف محددة لا يمكن التراجع عنها بسهولة، يحذر النقاد من أن الحكومة ترهن الاستقرار لقاء حل شعبوى سريع. وفى الحقيقة، يبدو أن لولا فى مهمة لاستعادة مكانة الدولة الآن. فبوجود 80 مليار برميل من النفط تحت المياه الإقليمية البرازيلية، يريد إلغاء نظام الامتيازات الحالى الذى يشجع التنافسية من خلال منح عقود التنقيب لمن يقدم العرض الأكثر سخاء. وفى المقابل، يقترح نظاما قائما على مشاركة الإنتاجية حيث يقوم بيروقراطيون بانتقاء من سيفوز بالعقود. وستكون شركة «بتروبراس» الحكومية المشغل الحصرى للآبار فى المياه العميقة وستمتلك برازيليا حق نقض أى مشاريع تنقيب. أخيرا، هدد بفرض عقوبات على فالى وهى شركة خاصة تملك برازيليا حصة كبيرة فيها لأنها طردت عمالا خلال فترة الركود ولأنها تصدر المواد الأولية بدلا من المنتجات المصنعة، ولا تستثمر ما يكفى من الأموال فى البرازيل، مما أدى إلى انتشار الشائعات بأن مجلس إدارة فالى بأكمله قد يطرد لتصبح الشركة خاضعة للحكومة. يشير نقاد لولا إلى أن قيمة فالى فى السوق ارتفعت ستة أضعاف منذ خصخصتها عام 1997. فى تلك السنة نفسها، وضعت البرازيل حدا لاحتكارها لقطاع النفط، وهى خطوة أجبرت بتروبراس الضخمة المتداعية التى كانت توصف فى الماضى ب«البتروصور» (أى كالديناصور) على التنافس مع أفضل الشركات النفطية للاستمرار. بتروبراس اليوم هى من الشركات الأكثر ربحا فى القطاع، والعام الماضى جعلت هذا البلد المتعطش للطاقة بشكل مزمن مكتفيا ذاتيا وقادرا على تلبية احتياجاته النفطية. فى الوقت الراهن، من غير المرجح أن تردع هذه التغييرات التى تجريها البرازيل المستثمرين الأجانب عن المضى فى مشاريعهم. فالبلد يوفر فرصا لا يمكن التغاضى عنها فى قطاع الموارد الطبيعية والبنى التحتية. لكن بالنسبة إلى البرازيليين، الرهانات أعلى بكثير. فالإفراط فى اعتماد سياسات شعبوية قد يعوق تقدم بلد على وشك استغلال طاقاته الكاملة الآن. وقبل وقت ليس ببعيد، كان لولا نفسه سيعترف بهذه المخاطر لكن هذا كان فى الماضى. Newsweek International