عاد موضوع الدور العربى الإقليمى يطرح نفسه على ساحة المنطقة العربية بعد العدوان الإسرائيلى على غزة، وتبلوُر الاتجاهات «المتنافسة» بين ما يسمى محورى الاعتدال والممانعة، والرغبة المحمومة لدى كل مجموعة فى القيام بدور للتأثير على مجريات الأمور لحسابها، وتحريك الأحداث فى الاتجاه الذى يخدم أهدافها، وذلك بعد فترة من عزوف السياسات العربية عن التواجد على الساحة، وتهربها من مواجهة الأدوار الإقليمية غير العربية التى تصاعدت فى المنطقة نتيجة الغياب العربى عنها. ومن أفول فكرة الدور العربى الإقليمى من أساسها بحيث أصبح يثير التساؤل حول طبيعته وجدواه وإمكانيات إحيائه، خصوصا فى ضوء الاعتقاد أن المتغيرات التى لحقت بالمنطقة، وبمراكز الثقل داخلها، وبتوازنات القوى على ساحتها، ربما تكون قد تجاوزت فى مجملها فكرة الدور الإقليمى العربى على الأقل بمفهومه القديم. وإذا كان مفهوم هذا الدور قد تغير بتغير المعطيات السياسية والإستراتيجية على ساحة المنطقة، حيث لم يعد مرتبطا بدور قيادى أو طليعى لدولة واحدة، وإنما أصبح يرتبط بمنظومة إقليمية قادرة على التعامل فى المجالات السياسية والاقتصادية، ويمثل آلية مُنسِقة بين المواقف العربية، وقوة دافعة لتوحيدها، ورأس حربة لتحركها الخارجى، وهو الأمر الذى يتطلب أن تقوم به مجموعة من الدول التى تمتلك تصورا مشتركا لوظيفة المنطقة ورؤية موحدة للدور العربى الجماعى على ساحتها، بما يجعل من مهمتها أشبه «بالقاطرة» التى تشد النظام العربى وتوجه حركته، وهو ما يستلزم أن تتمتع هذه الدول بشروط خاصة أهمها: توافر مقومات هذا الدور وإمكانياته من حيث التأثير السياسى، والحجم الجغرافى، والقدرة المالية، والإرادة السياسية. التمتع بعلاقات متوازنة مع جميع الأطراف العربية والإقليمية الفاعلة على الساحة، وتفادى الدخول كطرف فى أى نزاعات بينها، أو اتخاذ موقف الانحياز لفريق ضد آخر، والنأى بنفسها عن الالتحاق بركب السياسات الخارجية الأجنبية. أن تمتلك شرعية القيام بهذا الدور عن طريق تمتعها بتوافق عام حول موقعها فى المنطقة من حيث الاعتراف بدورها، ومساندة نشاطها، ودعم تحركها، وهو الأمر الذى يضطر القوى الخارجية النافذة إلى التعامل معها على هذا الأساس. أن تكون على استعداد لتحمل أعباء بعض المخاطر المحسوبة التى تستلزمها متطلبات القيام بهذا الدور ويستوجبها الحرص على اتخاذ مواقف مستقلة عن القوى الكبرى، وعدم تخوفها من الاعتراف بوجود اختلافات معها، بل وإقدامها على استثمارها إذا اقتضى الأمر. وبناء على ذلك، فإن المعتقد أن مهمة هذا الدور مازالت مطلوبة عربيا، خاصة فى ضوء صعوبة التحرك فى إطار النظام العربى بظروفه الراهنة، وذلك لتحديد الأهداف العربية الجماعية، وبلورة المصالح المرتبطة بها، وتنسيق المواقف للتعامل معها، وتوجيه الحركة العربية فى مسار واحد لتحقيقها، ومحاولة فرض التواجد العربى وتثبيت مواقعه فى القضايا المهمة، فضلا عن أهمية هذا الدور فى ضبط الأدوار الإقليمية غير العربية عبر التحكم فى الأوراق العربية التى تمثل عناصر القوة فى موقفها. وعلى الرغم من أهمية هذا الدور وجدواه على الساحة العربية، فإن إمكانية إحيائه ودعم مهمته تعترضه عدة عقبات أهمها: انقسام الآراء واختلاف المواقف بين السياسات العربية نتيجة تعدد التوجهات، وتنوع الأهداف، وتباين الاهتمامات، وهو ما يعتبر محصلة طبيعية لاختلاف ظروف الدول العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. استهانة الدول العربية بمتطلبات المصالح العربية العليا، ومقتضيات الأمن القومى العربى، ورفضها التنازل عن جزء من سيادتها ثمنا لمواقفها المشتركة ودفاعا عن أهدافها الجماعية. اختلاف الرأى بين السياسات العربية حول أولويات القضايا، ومصادر التهديد الأمنى، واتجاه التحالفات الخارجية، وذلك اتصالا باختلاف المواقع الجغرافية، والتجارب التاريخية، والمصالح الاقتصادية والأمنية لكل منها. افتقاد الدول العربية لمشروع سياسى يبلور رؤيتها للمنطقة، ويحدد أهدافها، ومصالحها الجماعية على ساحتها، ويضع إطارا واضحا لأمنها القومى، ويضبط علاقاتها الإقليمية والدولية ويحكم حركتها الجماعية. ومع ذلك، فإن الواضح أن العقبات التى تحول دون بلورة دور عربى إقليمى جماعى فاعل لا يتعلق بوجود تناقضات جوهرية، أو خلافات جذرية يصعب تخطيها بين السياسات العربية، بقدر ما يتصل بتباين هذه السياسات من فكرة الأدوار الإقليمية ذاتها، حيث لا يرتاح بعضها إلى مخاطر هذه الأدوار وأعبائها، ولا تمتلك أى طموحات لممارستها أو دعمها، فضلا عن اقتناع بعضها الآخر بعدم فاعلية الجهود العربية فى تسوية قضاياها، وتقديرها بأن تحالفاتها الخارجية هى التى تضمن حماية أمنها والحفاظ على مصالحها. خصوصا مع تقديرها بأن السياسة الأمريكية قد تشجع على قيام بعض الدول العربية بأدوار جزئية فى قضايا محددة تتم بشروطها وتخضع لمواصفاتها وتنحصر فى إطار الوساطة أو التهدئة أو المصالحة، ولكنها قد لا تبارك ظهور دور إقليمى عربى جماعى فاعل على الساحة العربية يستهدف توجيه المواقف وتوجيه الحركة فى سياسة منسقة ومستقلة قد لا تتفق مع أهدافها، أو قد تتعارض مع تصورها لدور إسرائيل فيها، أو قد لا تتوافق مع تقييمها لمقتضيات توازن القوى مع إيران بالمنطقة. وتأسيسًا على ذلك فإن الجهود المقدرة التى تبذلها بعض الدول العربية فى مجالات التهدئة وإعادة الإعمار فى غزة، والمصالحة بين السلطة والفصائل الفلسطينية، أو محاولات الوساطة بين الحكومة السودانية وبعض الفصائل المتنازعة فى مشكلة دارفور رغم أهميتها القصوى فى المرحلة الراهنة إلا أنها تعتبر من قبيل الأدوار «الجزئية» المطلوبة أمريكيا والمدعومة دوليا لتغطى قضايا محددة فى ظروف معينة. ولكنها لا تدخل فى إطار الدور العربى الجماعى الذى يفترض أن تقوم به مجموعة من الدول المؤثرة، ويستهدف إيجاد نمط من التعامل المشترك من خلال تنسيق الجهود، وتوحيد الرؤى لبناء موقف عربى فاعل يرمى إلى الحفاظ على المصالح العربية، والتأثير على المواقف الدولية، وتثبيت الوجود العربى فى جميع القضايا العربية الإستراتيجية على ساحة المنطقة. وإذا كان إحياء هذا الدور يستلزم تعاون جميع الدول العربية فى اتجاه تأكيد المصالحة، وتصفية الخلافات، وإنهاء المحاور، ولم الشمل على أسس سياسية واضحة، والتوافق الضمنى بينها على الدول التى تمثل «بوصلة» العمل العربى الجماعى، وذلك من منطلق التعاون مع جميع الدول العربية وتقدير ظروفها وتفهم مخاوفها الأمنية، وإشراك جميع القوى والحركات السياسية التى أصبحت جزءا من النسيج السياسى للمنطقة. فضلا عن العمل فى اتجاه تسوية القضايا الإستراتيجية فى الإطار العربى وحمايتها من محاولات استثمارها لتحقيق أهداف خارجية، وذلك بالتوازى مع فرز مواقف القوى غير العربية التى تتنافس على الساحة، وتقدير سياساتها وتقييم تحركاتها بمعايير المصالح العربية وحدها، إلا أن الشاهد أن هذه الاتجاهات ذات الأبعاد الإستراتيجية بالرغم من جهود المصالحة العربية المبذولة حاليا لتصفية الأجواء قبل انعقاد قمة الدوحة لا تظهر لها بوادر أو تتضح لها مقدمات، خصوصا فى ضوء اتجاه معظم الدول العربية إلى التركيز فى مقارباتها مع الإدارة الأمريكيةالجديدة على الموضوعات التى تمس مصالحها المباشرة، ولا تستوعب داخلها القضايا العربية العامة، أو تضع فى حساباتها متطلبات الدور العربى الإقليمى الجماعى.