التطورات المتلاحقة التى تشهدها المنطقة نتيجة التحركات النشطة للدول الإقليمية غير العربية على ساحتها، مقابل الغياب العربى عن أحداثها، وجمود السياسات العربية فى التعامل معها، وعجزها عن المشاركة أو التأثير فى مجريات أمورها، وعزوفها عن مواجهة التدخلات الخارجية فى شئونها، قد أدت إلى تأثيرات مباشرة على أوزان وأحجام القوى العربية النافذة على الساحة، وانعكاسات تلقائية على السياسات والأفكار والمفاهيم السائدة فى مجتمعاتها. خصوصا أن ما تتمتع به المنطقة من أهمية استراتيجية لدى الدول الكبرى لا ترجع فقط إلى مبررات «ثابتة» تتمثل فى الموقع والموارد والامتداد الجغرافى والتنوع البشرى ووجود إسرائيل على أراضيها، وإنما تعود إلى دواعٍ «متحركة» تختص بقابليتها للاستجابة السريعة للتطورات المستجدة، ونقل تأثيراتها المباشرة إلى موازين القوى على الساحة. وهو الأمر الذى دفع الأمريكيين للاهتمام بحقائق القوة الجديدة فى المنطقة، والتعامل معها على أساس ثقلها الفعلى على ساحتها، فى الوقت الذى تصر فيه الأطراف العربية على اتخاذ موقف الرفض والإنكار لهذه التطورات كرد فعل على إحساسها بضعف مواقفها وقلة فاعليتها ونفاذ الأوراق لديها، وذلك على الرغم من تبلور اتجاهات جديدة فى المنطقة تبين بوضوح انتقال مراكز الثقل فيها إلى مواقع غير عربية يمكن رصدها فى الدلالات التالية: أولا: غلبة الاعتبارات الإقليمية على مسار التطورات فى المنطقة، وذلك من منطلق نشاط حركة القوى الإقليمية غير العربية، وتزايد نفوذها وتصاعد تأثيرها على الساحة العربية وتحركها لملء الفراغ الناتج عن الغياب العربى فى القضايا الاستراتيجية والفضاء الإقليمى، واعتمادها فى فرض مواقفها وتثبيت أوضاعها فى المنطقة على وسائل تتراوح بين الضغط العسكرى والامتداد الأيديولوجى والتسويق الاقتصادى والتنموى. ثانيا: وضوح التقرير الأمريكى بثقل ومكانة القوى الإقليمية غير العربية، والاعتراف بإمكانياتها وقدراتها على مساعدة الولاياتالمتحدة فى أزماتها واحتواء مشكلاتها فى الجوار الآسيوى، على أساس قوة وجودها على هذه الساحة وتأثيرها على قضايا المنطقة عموما، وهو الأمر الذى يفسر حرص الأمريكيين على تأكيد رغبتهم فى التفاوض مع إيران، وتشجيعهم لتصاعد الدور التركى على الساحة، خصوصا فى ضوء شعورهم بارتخاء قبضتهم على خيوط التوازن القائم فى المنطقة نتيجة انحسار قوتهم فى الجوار الآسيوى وتراجع نفوذهم فى النزاع العربى الإسرائيلى، وضعف تأثيرهم فى تطورات الوضع فى العراق. ثالثا: سقوط التحالفات القائمة على أسس الاعتدال والممانعة، ليس فقط نتيجة زيف المفاهيم التى قامت عليها، وقصْر أهدافها على اتخاذ مواقف التأييد أو المعارضة للسياسة الأمريكية، وإنما أيضا لضعف محور الاعتدال وفشله فى القيام بالمهمات المطلوبة منه أمريكيا، فضلا عن هبوط فاعلية محور الممانعة، وزوال الحاجة لدوره نتيجة تغير التوجهات الأمريكية تجاهه، وانفتاح الأفق أمام أطرافه للتحرك فى مسارات أخرى، هذا بالإضافة إلى تصاعد الدور التركى الذى شارك بفاعلية فى تغيير المعادلة السياسية بالمنطقة، وساهم بحيوية فى استنفاد الأغراض التى قامت هذه التحالفات من أجلها. رابعا: بدأ تبلور مقاربات إقليمية عربية يمكن أن تأخذ مستقبلا شكل تحالفات آمنة إذا ما سنحت الظروف المناسبة لذلك. وتقوم تركيا بدور نشط فى تجميع الدول التى تشترك معها فى الرؤية السياسية والاهتمامات الاقتصادية والتركيز على مجالات يمكن أن تؤدى إلى تعاون إقليمى فعال فى دول الجوار التركى على حساب دول الاعتدال العربى، التى تعانى من تواضع سياساتها وتفجر الأزمات على ساحتها. وهو أمر تشجعه الدول الغربية لتقديرها بأن التعاون الإقليمى بين دول الجوار التركى يمكن أن يكون له مردود مهم على اقتصاداتها فضلا عن انعكاساته السياسية المأمولة على ساحات التوتر السياسى بالمنطقة خاصة بالنسبة لتهدئة الأوضاع فى العراق، ولجم اندفاعات السياسة الإيرانية فى الساحة. وإذا كانت الفجوة بين مواقف الدول العربية ومواقف الدول الإقليمية قد اتسعت نتيجة وضوح النوايا الأمريكية فى التركيز على أولوياتها الداخلية والتزاماتها الخارجية المباشرة، وتأجيل تحركها فى قضايا المنطقة إلى مرحلة قادمة، فإن الواضح أن هذه التطورات قد أظهرت ضعف قدرة الدول العربية على مواجهة فراغ القوة فى المنطقة فى ضوء خلو جعبتها من الأوراق المؤثرة فى المعادلة السياسية. واعتمادها الكامل على دعم السياسات الأمريكية، فى الوقت الذى منحت فيه هذه التطورات الدول الإقليمية غير العربية فرصة ثمينة للتحرك على الساحة بحرية أكبر وبقدر أقل من قيود الرقابة الأمريكية، وهو الأمر الذى ظهرت مفاعيله فى استعادة إسرائيل لحريتها الكاملة فى الاستيطان والتهويد وتثبيت واقع الاحتلال على الأراضى الفلسطينية دون أن تواجهها ردود أفعال ضاغطة من الجانب الأمريكى. كذلك فى غلبة الاتجاه الداعى فى إيران إلى اتخاذ موقف متشدد من الولاياتالمتحدة، والتأنى فى الاستجابة لمقترحاتها فى مجال التخصيب على أساس أن سياسة أوباما تجاهها تعبر عن مظاهر ضعف وبداية تحلل تثبت أن محاولات الانفتاح عليها تمثل مسارا إجباريا لا تملك الولاياتالمتحدة سواه. وهو ما يعطى لإيران ميزة تفاوضية فى جميع الملفات التى تنوى مناقشتها مع الأمريكيين. فضلا عما يعنيه هذا التطور لتركيا من فتح المجال أمامها لبناء دورها فى المنطقة بقدر فراغ القوة الذى يخلقه انحسار التحرك الأمريكى على ساحتها، والتوتر الذى يُنتجه غياب المبادرات لحل النزاع العربى الإسرائيلى. أما على الجانب العربى، فقد وضح أن السياسات العربية تفتقد الرؤية والرغبة فى مواجهة التطورات المتصاعدة فى المنطقة، أو ملاحقة تحركات القوى الإقليمية غير العربية على ساحتها. هذا فضلا عما سببه الغياب العربى من فراغ سياسى زاد من قابلية المنطقة للاختراق الخارجى، وأدى إلى فشل دولها فى تجاوز المشكلات «المزمنة»، والأزمات «الوهمية»، والمعارك «الاستنزافية»، ومغامرات «البذخ المفرط»، واتجاهات «السكون المتعمد»، انتظارا للمبادرات الخارجية. ومن هنا تتكشف مفارقات الوضع العربى من حيث الاعتماد الكامل على دور الولاياتالمتحدة بالنسبة لتسوية النزاع العربى الإسرائيلى دون بذل أية محاولات لدفع وتشجيع السياسة الأمريكية أو التأثير فى توجهاتها، أو القيام بأى جهود لتعديل موازين القوى فى المجالات المختلفة مع إسرائيل. هذا فضلا عن عزوف الجانب العربى عن التواصل مع إيران، أو التعامل مع برنامجها النووى، على الرغم من تشابكه مع قضايا المنطقة وتأثيره على الأمن العربى الجماعى، وهو الأمر الذى يضع العرب فى موقف المتلقى غير القادر على الفعل والتأثير، كما يضع المنطقة بمجملها خارج إطار التعامل مع القضيتين الإقليميتين الأكثر تأثيرا فيها. ولعله مما يزيد من مفارقات الوضع العربى فى هذا الشأن هو ما أظهرته الأحداث من هشاشة الانتماء العربى لدى بعض الأوساط الرسمية والشعبية، وتنامى قوى على الساحة العربية تعادى العروبة كهوية ومفهوم قومى لأسباب تتعلق بمخاوف الثروة، والانحياز الأيديولوجى، والقلق المجتمعى، والتوظيف السياسى، والتضارب المصلى، وقصور الثقافة السياسية. هذا فضلا عما يُلاحظ من أن الانقسامات بين الدول العربية لا تتصل بمشكلات حقيقية أو مصالح حيوية، بقدر ما تتعلق بافتقاد الكيمياء بين القيادات، أو بحدة التنافس على أدوار تختص بهيبة الحكم و«هواية» تسجيل النقاط. فضلا عن أن افتقاد العرب للقدرة على التضامن، وتجنب مقاربات التعاون المشترك تعود فى معظمها إلى مثلث «النكوص» العربى: الحرص المَرَضى على السيادة، أنانية النظرة إلى الأهداف والمصالح وذاتية التحرك لتحقيقها، التركيز على أمن النظم قبل مصالح الدول. ولذلك، فإنه فى ظروف ديناميكية الحركة الإقليمية وسكون الواقع العربى، وتراجع السياسة الأمريكية بالمنطقة، فإن المشكلة لم تعد تتصل فقط بتطويع الأوضاع العربية وتغيير سياساتها بما يُمَكِّنها من مواجهة التحديات المطروحة على الساحة، وإنما أصبحت تتعلق أيضا بإزالة التناقض فى المعادلة العربية بين مصالح الدول التى تتطلب الحركة والتغيير، ومصالح النظم التى يُطمئنها الثبات والاستقرار.