خلال زيارة قام بها مؤخرا للقاهرة، أعرب وفد من تشاتم هاوس على أن التطوير السياسى فى معظم البلاد العربية كلها ربما باستثناء دول الخليج العربى سيتم عن طريق التوصل إلى توافق سياسى بين النظم الحاكمة والنخب السياسية، الدينى منها والعلمانى، والنخب الاقتصادية. الحديث عن تحقيق الديمقراطية فى البلاد العربية أصبح متراجعا، بسبب تراجع الضغوط على الأقل العلنية منها التى تمارسها الإدارة الأمريكية على الحكومات العربية التى يتحالف معظمها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية سواء لأسباب أمنية أو اقتصادية مباشرة. ومع تراجع مطالبات واشنطن بالديمقراطية فى العالم العربى، تراجعت ربما بالتبعية المطالبات الأوروبية فى نفس الشأن. وعلى حسب ما رصده أعضاء وفد تشاتم هاوس خلال زيارة أخيرة للقاهرة، فإن المفاضلة فى العالم العربى، خاصة دول المغرب العربى ومصر وبعض جمهوريات المشرق العربى، أصبحت بين تحقيق التنمية الاقتصادية أو الإصلاح السياسى. وفى ندوة نظمتها «الشروق» بالتعاون مع السفارة البريطانية بالقاهرة، أبدى أعضاء الوفد القلق من هذا التوجه، خاصة أنه، حسبما قالوا، لم يعد مقصورا على الأنظمة الحاكمة فى الدول العربية بل أصبح هناك من يتبناه فى العديد من العواصمالغربية خاصة واشنطن. وتقول كريستينا كوكس، عضو الوفد، التى تتابع التطورات السياسية فى الدول العربية المطلة على المتوسط: إن المفاضلة بين التنمية الاقتصادية أو التطور السياسى لم تعد فقط محل حديث للأنظمة، بل أصبحت أمرا يؤمن به قطاعات من الشعوب العربية والتى أصبحت تظن بالفعل أن الحديث عن تحقيق التطور السياسى يمكن أن يتسبب فى اضطرابات تحول دون التنمية الاقتصادية وهو ما يتسبب فى إصابة هذه القطاعات بالقلق من فكرة السعى نحو تحقيق التطور السياسى. وتقول كوكس: إن طرح التطور السياسى والتنمية الاقتصادية فى إطار معادلة يفترض تحقق الجزء الأول منها غياب الجزء الآخر هو أمر مجاف للحقيقة. وتشدد كوكس على أن «تحقيق الديمقراطية هو أحد أسباب ضمان العدالة الاجتماعية بل والتنمية الاجتماعية نفسها». واتفق أعضاء الوفد الذى ضم إلى جانب كوكس كلا من لكير سبنسير رئيسة وحدة دراسات الشرق الأوسط فى تشاتم هاوس ويحيى زوبير أستاذ العلاقات الدولية فى كلية الإدارة بمارسيليا وجون ماركس رئيس وحدة المعلومات بتشاتم هاوس وجونسون جينز ميزر محاضر العلوم السياسة بجامعة إكستر على أن «الفزع الغربى من وصول الإسلاميين للحكم» أصبح عائقا بين الحكومات الغربية وبين دعم التطور السياسى، بما يشمله من تحول ديمقراطى، فى الدول العربية. ويقول زوبير: إن العالم الغربى يخشى كثيرا من تكرار «سيناريو الجزائر» حينما سمحت الانتخابات التعددية فى مطلع التسعينيات بوصول الأحزاب الإسلامية الراديكالية إلى الحكم وما تبع ذلك من إلغاء للانتخابات ومواجهات سياسية دامية بين الحكومة والإسلاميين، مازالت تبعاتها مستمرة حتى اليوم. ويضيف زبير: إن سيطرة التوجهات الإسلامية على معظم دوائر المعارضة فى العالم العربى تزيد من هذا الخوف، خاصة فى ظل غياب قاعدة صلبة من المعارضة التى لا تنتمى للتيارات الدينية سواء كانت الأحزاب العلمانية أو حتى التجمعات المنضوية تحت مظلة النقابات المهنية أو العمالية. ويلاحظ جيز ميزر أنه بالرغم من وجود إرهاصات لمعارضة منبثقة من تجمعات هى بالأساس لنقابات مهنية أو عمالية، خاصة فى مصر، فإن هذه التجمعات مازالت بعيدة عن التأثير الجاد على تيار المعارضة المؤثر مما يبقى التيارات الإسلامية تبدو كما لو كانت البديل الوحيد للأنظمة الحاكمة. وتقول كوكس: إن الحكومات العربية تستغل الخوف الغربى من وصول الإسلاميين فى الحكم بالتأكيد على أن البديل الوحيد المطروح لها هو بديل إسلامى وربما راديكالى، وبالتالى فإن الحديث عن تحقيق الديمقراطية فى العالم العربى يصبح مساويا للحديث عن العمل على إيصال الإسلاميين للحكم، بكل ما يعنيه ذلك للمصالح الغربية السياسية أو الاقتصادية. وبحسب زبير، فإن المفاضلة بين التنمية والديمقراطية والمفاضلة بين الأنظمة الحالية والإسلاميين تبعد الناخب العربى عن الاهتمام بالعملية السياسية، وبالتالى عن الانخراط فيها. ويضيف زبير قائلا: إن غياب النزاهة عن الممارسات الديمقراطية المحدودة التى تجرى يسهم أيضا فى إثناء المواطن العربى عن المشاركة السياسية، ويقول: «فى الجزائر على سبيل المثال بعد تعديل (الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة) للدستور (ليسمح لنفسه بالترشح لفترة رئاسية ثالثة) أصبح الانطباع فى أوساط الناخبين الجزائريين أنه إذا كان بوتفليقة قد عدل الدستور ليترشح لمرة ثالثة فإن بوتفليقة سيفوز حتما، وبالتالى فلا داعى للاهتمام بالذهاب للتصويت». ويضيف أنه حتى هؤلاء الذين يرفضون نظام بوتفليقة لا يجدون فى الانتخابات وسيلة لتغيير هذا النظام. وبحسب زبير: فإن إبقاء الوضع على ما هو عليه مع قليل من التعديلات التجميلية أصبح الموقف المستقر عليه داخليا وخارجيا، ويشير إلى قرار الإدارة الأمريكية مؤخرا منح مساعدة مالية للمؤسسة الاجتماعية التى يشرف عليها سيف الإسلام القذافى نجل الزعيم الليبى معمر القذافى، والمرشح الأبرز لخلافته، من أجل نشر الديمقراطية فى ليبيا. وبحسب كوكس، فإن الخلل الأساسى فى عملية التحول السياسى مرتبط بتطور الأوضاع فى مصر أو على الأحرى عدم تطور الأوضاع فى مصر. ويقول كوكس: إن حالة الجمود السياسى التى أصابت مصر والتى يدلل عليها بتراجع اهتمام العالم الخارجى والصحافة العالمية بأحوال مصر انتقلت إلى العواصم العربية الأخرى. ويضيف كوكس أن نجاح سيناريو نقل السلطة من الأب إلى الابن فى مصر سيجعل هذا السيناريو أكثر ترجيحا للتكرار فى دول عربية أخرى. واتفق أعضاء وفد تشاتم هاوس مع أسرة «الشروق» التى ترأسها هانى شكرالله، عضو مجلس التحرير، وشارك فيها ضمن آخرين أيمن الأمير، الكاتب بصفحة الرأى، ونيرفانا شوقى، رئيس صفحة الرأى، على أن إحداث التغيير فى الدول العربية، خاصة فى نطاق شمال أفريقيا سيتم بالأساس فى إطار «توافق مصالح». وحسب سبنسر فإن الدلائل التى يمكن للمتابع أن يرصدها تشير إلى أن الأنظمة العربية ستسمح بالتغيير بدرجات متفاوتة وبصورة متدرجة فى حال ما رأت استحالة استمرارها دون السماح بهذا التغيير. وتضيف كلير أن العواصمالغربية المعنية أصبحت مدركة أن التغيير «على طريقة ما حدث فى العراق» سيجلب كوارث لا نهائية. واتفق أعضاء وفد تشاتم هاوس على أن التغيير فى الدول العربية سيكون فى الأرجح مرهونا ب«صفقة» تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأنظمة الحاكمة ومصالح النخبة الاقتصادية وتقسيم الأدوار بين المعارضة الإسلامية منها والنقابى والعلمانى. وقالت كوكس: لقد أصبح واضحا أن الوصول إلى الديمقراطية سيكون «من خلال التفاوض بين الحكومات العربية والنخب الاقتصادية والسياسية فى هذه البلاد». وأضاف زبير أن هذا التفاوض ينبغى أن يؤدى إلى التوصل إلى «حزمة متفق عليها» من الإصلاحات السياسية التى لن يكون فيها ما يؤدى إلى الإطاحة بالأنظمة الحاكمة بالمعنى التقليدى.