إن فكرة الحوار الحضاري وإن كانت مستحدثة إصطلاحاً إلا أنها قديمة قدم الوجود البشري، سواء تناول الإنسان بها عالمه المادي المحيط به أو إرتقى بأدوات التناول لتشمل بني جنسه أو الكائنات من حوله. ورغم تعدد مناحي ذلك الحوار وتباين مشاربه لدى الإنسان بعامة والمصري القديم على وجه الخصوص، فقد ظلت العقيدة أحد أهم أسس هذا الحوار إن لم تكن أهمها طُراً. وعلى الرغم من إهتمام المصري بكافة عوالم الشرق الأدنى القديم المحيطة به، إلا أن النوبة ظلت بالنسبة له ذات خصوصية في علاقة مصر بها، لكونها تمثل العمق الإستراتيجي لمصر جنوباً ومنبع النيل العظيم فضلاً عن أهميتها الإقتصادية. وهي رغم إفتقار المصادر لتحديدها جغرافياً، إلا أنها في ضوء المعطيات التاريخية إنما تمثل الإقليم الممتد من جنوبي أسوان حتى شمال الجندل السادس حيث عرفها المصري بإسم تا نحسي أي أرض السواد، وقسمها لقسمين هما النوبة السفلى واوات وتمتد حتى الجندل الثاني لتبدأ منه النوبة العليا كوش ممتدة لبقية الإقليم. ولقد واجه سكان النوبة ما واجهه المصري القديم من معوقات مثلت في رأي أرنولد توينبي صاحب نظرية التحدي والإستجابة في كتابه الشهير "دراسة للتاريخ" الدوافع الرئيسية للإبداع الحضاري أو الإخفاق الإستجابي لها، وهي دافع الأرض الصعبة، ودافع الأرض الجديدة ودافع النكبات ودافع الضغوط البشرية وأخيراً الدافع العقابي أو الدونية المجتمعية. وفي الواقع فقد تفاعل أهل النوبة مع هذه الدوافع التي أفرزت مظاهر حضارية مميزة لهم ومن بينها عدداً من المعبودات الأصلية على قلتها، مثل: "دِدْوِنْ" سيد النوبة وأقدم آلهتها ومسؤول تجارة البخور لمصر، و"أبيدامك" مانح الحياة والحامي للملكية مع زوجته "أميسمي"، وكذا "منحيت" إله الحرب و"سبيومكر" إله الخلق وابنه "أرنسنوفيس" إله الهواء. وقد مثل تتبع تواجد هذه الآلهة في مجمع اللاهوت المصري مقارنة بتواجد المعبودات المصرية في النوبة إشكالية رئيسية تستحق البحث، وذلك في ضوء توفر متشابهات الدوافع الحضارية البيئية والبشرية في مصر والنوبة. ومن ثم فإن السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه يتمثل في تبدي مفردات العقيدة المصرية بوضوح على أرض النوبة في حين لم تحظ المعبودات النوبية بذات المكانة لدى المصريين، بل إن معظمها لم يطأ الوجدان العقيدي للإنسان المصري على مدار تاريخه القديم. ولكي تزداد الصورة وضوحاً والطرح تفسيراً فلقد عرفت النوبة على إمتداد مساحتها عبادة ما يربو عن الخمس وثلاثين معبوداً مصرياً رئيسياً، نذكر منها رع وبتاح وأوزير وإيزيس وحورس وآمون مثالاً لا حصراً، فضلاً عن تقديس الملوك المؤلهين مثل سنوسرت الأول وتوت عنخ آمون ورعمسيس الثاني، كل ذلك في المعابد المصرية بشطري النوبة العليا والسفلى. في حين نجد أن معبوداً مثل "ددون" فقط هو أكثر من عرفته العقيدة المصرية وتردد ذكره في نصوصها التعبدية الرئيسية ونعني بها متون الأهرام من الدولة القديمة ومتون التوابيت من الدولة الوسطى، بينما لم يرد له أية ذكر في كتاب الموتى من الدولة الحديثة. أما نظراؤه فمنهم من ورد في متون التوابيت فقط مثل "منحيت" ومنهم من لم يدخل البتة في مجمع الآلهة المصرية مثل "أميسمي" زوجة "أبيدامك". وهكذا تبدو المفارقة غاية في الوضوح من حيث عدم التوازن التعبدي إن جاز التعبير بين المعتقدات المصرية في النوبة مقابل مثيلتها النوبية في مصر. ومما يزيد من عمق الرصد لتلك الظاهرة ومن ثم عمق التساؤل أن المعبودات السورية مثل "بعل" و"عشتار" و"هدد" قد حظيت بتقدير وتواصل غاية في الإحترام في اللاهوت المصري مقارنة بمثيلاتها النوبية، رغم أن العامل الزمني والإمتداد الجغرافي كانا لا محالة في مصلحة المعبودات النوبية. حقيقة أننا نتفهم ظهور الآلهة السورية بهذه القوة في ضوء حرص مصر في عصر الدولة الحديثة على الهيمنة السياسية على المدن السورية، بحيث أضحى العامل الديني ورعاية معبوداتها إحدى الوسائل الحضارية الناجحة في بلوغ ذيٌاك الهدف. أما الأمر بالنسبة للنوبة فربما يكون قد تأثر بتعدد إخفاقات الإستجابة لتحديات الدوافع الحضارية، الأمر الذي جعل معظم مفردات عطائها الحضاري لا سيما الديني باهتاً أو منعدم التأثير فيمن حولها. على أساس أنه ليس بالضرورة أن تتعاظم درجة الإستجابة كلما إشتد التحدي، بل ربما يكون رد الفعل متمثلاً في إخفاق الإستجابة لتحديات بعينها. ولعل هذا ما يفسر حرص النوبيين ليس فقط على التعبد للمعبودات المصرية بل الحرص على دمج آلهتهم وظيفياً معها، مثل مماثلة "منحيت" مع "نيت" إلهة الحرب فى دلتا مصر و"أرنسنوفيس" مع "شو" المصري إله الهواء مثالاً لا حصراً. ونخلص في هذه العجالة إلى عدد من النتائج نجملها فيما يلي: أولاً: أن الظروف السياسية لعبت الدور الرئيسي في الحوار العقيدي بين مصر والنوبة، في ضوء إستمرارية الهيمنة المصرية على النوبة طيلة تاريخها، فيما عدا فترات الضعف السياسي المعروفة اصطلاحاً باسم "عصور الإنتقال" وكذا فترة حكم الأسرة 25 النوبية لمصر. ثانياً: إن تلك الظروف السياسية قد ألقت بظلالها على التقابل التعبدي بين مصر والنوبة. فعندما كانت علاقات الهيمنة السياسية في الدولتين القديمة والوسطى ذات صبغة سلمية، تضمنت النصوص التعبدية المصرية الرئيسية كمتون الأهرام والتوابيت ذكر بعض الآلهة النوبية والتي حظي المعبود "ددون" فيها بالنصيب الأوفر. في حين غاب هذا الذكر تماماً مع كتاب الموتى في الدولة الحديثة عندما أصبحت النوبة جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية المصرية، ليظهر مرة أخرى خلال العصر المتأخر ثم يصبح قاسماً مشتركاً عندما دخلت مصر في طور الحضارة الهلينستية. ثالثاً: يمكن إرجاع تفوق "ددون" على أقرانه في اللاهوت المصري إلى طبيعة وظيفته كحام لتجارة البخور الآتية من الجنوب إلى الشمال، نظراً لأهمية البخور في العقيدة المصرية والتي انعكست على أهميته ذاتها. رابعاً: رغم سيطرة الأسرة 25 النوبية على مقدرات الأمور السياسية لمصر إلا أن حكامها كانوا حريصين على التعبد للآلهة المصرية وتمثُل أنماطها التعبدية أكثر من فرض آلهتهم المحلية. ولو طبقنا المبدأ الخلدوني الشهير من "..أن المغلوب كَلِفُ دائماً بتقليد الغالب.."، لأمكننا تفسير هذه الظاهرة التي تؤكد على إحساس النوبيين بالإخفاق الحضاري أمام المصريين رغم تفوقهم العسكري آنذاك. خامساً وأخيراً: قد يبدو مما طرح سلفاً أن ثمة حوار من طرف واحد قد تسيد القضية مناط البحث، بيد أن واقع الأمر يشي بأن طرفي الحوار أي مصر والنوبة- قد إختلف إيقاع طرحهما العقيدي المتبادل بقدر حجم تمثلهما لعوامل التحدي ودوافع الإستجابة. بمعنى أنها كانت في مصر القديمة كُلاً متعددا بينما كانت في النوبة كُلاً مُفرداً.