اعرف طريقة الاستعلام عن معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    20 لاعبًا بقائمة الاتحاد السكندري لمواجهة بلدية المحلة اليوم في الدوري    مصرع أكثر من 29 شخصا وفقد 60 آخرين في فيضانات البرازيل (فيديو)    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    الخضري: البنك الأهلي لم يتعرض للظلم أمام الزمالك.. وإمام عاشور صنع الفارق مع الأهلي    جمال علام: "مفيش أي مشاكل بين حسام حسن وأي لاعب في المنتخب"    "منافسات أوروبية ودوري مصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين في غزة جائزة حرية الصحافة لعام 2024    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    أيمن سلامة ل«الشاهد»: القصف في يونيو 1967 دمر واجهات المستشفى القبطي    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    مصطفى شوبير يتلقى عرضًا مغريًا من الدوري السعودي.. محمد عبدالمنصف يكشف التفاصيل    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    محمد هاني الناظر: «شُفت أبويا في المنام وقال لي أنا في مكان كويس»    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    انخفاض جديد مفاجئ.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالبورصة والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    الغانم : البيان المصري الكويتي المشترك وضع أسسا للتعاون المستقبلي بين البلدين    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    هالة زايد مدافعة عن حسام موافي بعد مشهد تقبيل الأيادي: كفوا أيديكم عن الأستاذ الجليل    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الله السناوي يكتب في الذكرى «48» لجمال عبد الناصر عن نبوءة يوسف إدريس وخفايا الملف الغامض:
هل وصلوا إلى ناصر بالسم؟
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 09 - 2018

• تبدو قصة «الرحلة» ليوسف إدريس نبوءة غير قابلة للتصديق.. حيث توقع رحيل عبدالناصر قبل موعده بثلاثة أشهر كأنه يقرأ من كتاب مفتوح
• وفق ما هو مسجل فإن قيادات الدولة العبرية توصلت إلى استنتاج أن بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسم أو بالمرض
• الكل وقد داهمتهم وفاة عبد الناصر حتى وإن لم تكن الوفاة مفاجأة بالنسبة للبعض بدأوا يتكتلون ويناورون ويتقاتلون حول من يخلف المسجى جثمانه بداخل قصر القبة
• مما قيل وتردد منسوبًا إلى خبير العلاج الطبيعى على العطفى أنه قام بعمل تدليك لساقى الزعيم الراحل بمادة سامة قضت على حياته
• رواية خالد عبد الناصر عما حدث لا تجيب عن سؤال الملف الغامض: هل وصلوا فعلا إلى «عبد الناصر» بالسم؟
«سنرحل حالًا، سنرحل إلى بعيد بعيد إلى حيث لا ينالك ولا ينالنى أحد».
«أعرف أنك تفضل اللون الكحلى.. ها هو البنطلون إذن.. ها هى السترة.. بالتأكيد ربطة العنق المحمرة فأنا أعرف طبعك.. لست بالغ الأناقة نعم ولكنك ترتدى دائمًا ما يجب، ما يليق».
«أنت لا تعرف أننى أحب شعرك.. خفيف هو متناثر».. «بيدى سأمشطه.. بعدها وبالفرشاة أسوى شاربك.. حتى هذا النوع من الشوارب أحبه».
«هكذا رأيتك مئات المرات تفعل، وهكذا أحببت كل ما تفعل».
بشيء أقرب إلى المناجاة والتوحد مع شخص لا يقول من هو يأخذه فى رحلة عبر سيارة تمضى بلا عودة.
بإيقاع متدفق تستبين رائحة الموت فى السيارة قبل أن يُفصح الراوى بنوع من التورية عمن يقصد، إنه الرئيس «جمال عبدالناصر».
«وداعًا يا سيدى يا ذا الأنف الطويل وداعًا».
تبدو قصة «الرحلة» ل«يوسف إدريس»، التى نشرتها صحيفة «الأهرام» فى يونيو (1970)، نبوءة غير قابلة للتصديق، حيث توقع رحيل «عبدالناصر» قبل موعده بثلاثة أشهر، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح.
«لماذا كنا نختلف؟ لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رأيى وأقبل رأيك؟ لماذا كنت دائمًا أتمرد؟ لماذا كرهتك فى أحيان؟ لماذا تمنيت فى لحظات أن تموت لأتحرر؟ مستحيل أن أكون نفس الشخص الآن الذى يدرك أنه حر، الحرية الكاملة بوجودك معه، إلى جواره، موافقًا على كل ما يفعل».
«تصور يريدونك أنت الحى جثة يدفنونها.. مستحيل، يقتلوننى قبل أن يأخذوك، ففى أخذك موتى، فى اختفائك نهايتى، وأنا أكره النهاية كما تعلم.. أكرهها أكرهها».
«يكفى أنك معى.. أنت أنا.. أنت تاريخى وأنا مجرد حاضرك.. والمستقبل كله لنا.. مستحيل أن أدعهم يأخذونك، يميتونك، يقتلونك».
لم يكن «يوسف إدريس»، على صلة وثيقة بمجريات الأمور خلف كواليس الحكم حتى يتسنى له أن يعرف مدى خطورة ما يتعرض له الرئيس من مصاعب صحية، أو أنه أصيب بأزمة قلبية أولى أثناء حرب الاستنزاف إثر إغارة إسرائيلية على منطقة «الزعفرانة»، تمكنت من الوصول إلى رادارات حديثة وقتل خلالها خمسة جنود وبعض المدنيين المصريين، أو أنه يعانى من آلام فى العظام استدعت علاجه فى «تسخالطوبو» الروسية.
إنه إلهام الأدب وروح التراجيديا التى تتوقع شيئًا ما غامضًا يحدث فجأة والتوحد مع بطله.
بالتكوين السياسى لم يكن «يوسف إدريس» ناصريًا.
وبالتجربة الإنسانية فقد عارضه ودخل سجونه قبل أن يعاود النظر فى تجربته ويدافع عنها بعد أن انقضى زمنه.
نصه القصصى يكشف مكنونات نفسه وما يخالجها من مشاعر متناقضة.
ها هو يعترف بأنه تمنى أن يموت «عبدالناصر» حتى يتحرر ويجاهر بأنه كان يكرهه، فإذا به قرب ما استشعر أنها النهاية يتوحد معه ويعلن استعداده للقتال حتى لا يصلوا إليه.
لم يكن «يوسف إدريس» وحده الذى انتابته تلك التحولات الحادة فى المشاعر من الكراهية المقيتة إلى المحبة الغامرة.
«سيظلّ ذو الوجهِ الكئيبِ وأنفُه ونيوبُه
وخطاه تنقر فى حوائطنا الخراب
إلاّ إذا
إلاّ إذا مات
سيموت ذو الوجه الكئيب
سيموت مختنقًا بما يلقيه من عفنٍ على وجهِ السماء
فى ذلك اليوم الحبيب
ومدينتى معقودة الزنار مبصرة سترقص فى الضياء
فى موت ذى الوجه الكئيب».
كانت تلك كراهية لا حدود لها عبّر عنها الشاعر «صلاح عبدالصبور» فى أعقاب أزمة مارس (1954).
نُشرت لأول مرة ضمن ديوانه «الناس فى بلادى» عام (1957).
حتى يتجنب أية مساءلة قانونية، أو سياسية، تنال من حريته أهدى قصيدته الهجائية إلى «الاستعمار وأعوان الاستعمار».
إنه مثقف أخذ موقفًا فى وقته وحينه من أزمة عاصفة غيّرت معادلات الحكم وعبّر عنه فى قصيدة تحمل مسئولية نشرها.
غير أن اختبار الزمن غيّر موقفه من نقيض إلى نقيض بعدما رحل الرجل الذى تمنى موته بعد ستة عشر عامًا، ولم يعد يملك لأحد نفعًا أو ضرًا.
«هل مت؟ لا، بل عدت حين تجمع الشعب الكسير
وراء نعشك
إذ صاح بالإلهام:
مصر تعيش.. مصر تعيش..
أنت إذن تعيش، فأنت بعض من ثراها
بل قبضة منه تعود إليه، تعطيه ويعطيها ارتعاشتها
وخفق الروح يسرى فى بقايا تربها، وذِمًا دماها
مصر الولود نمتك، ثم رعتك، ثم استخلفتك على ذراها
ثم اصطفتك لحضنها،
لتصير أغنية ترفرف فى سماها».
كان هو نفس الرجل الذى تمنى موته قبل ستة عشر عامًا.
عندما مات فعلًا كاد الشاعر ألا يصدق:
«هل مات من وهب الحياة حياته».
بكاه بحرقة فى قصيدته «الحلم والأغنية»، فهو حلم للفقراء والمعذبين وهو أغنيتهم:
«كان الملاذ لهم من الليل البهيم
وكان تعويذ السقيم
وكان حلم مضاجع المرضى، وأغنية المسافر فى الظلام»
«وكان من يحلو بذكر فعاله فى كل ليلة
للمرهقين النائمين بنصف ثوب، نصف بطن
سمر المودة والتغنى والتمنى والكلام».
«وكان مجيئه وعدًا من الآجال،
لا يوفى لمصر ألف عام».
«كأن مصر الأم كانت قد غفت، كى تستعيد شبابها ورؤى صباها
وكأنها كانت قد احترقت
لتطهر ثم تولد من جديد فى اللهيب
وخرجت أنت شرارة التاريخ من أحشائها
لتعود تشعل كل شيء من لظاها».
كيف حدث ذلك؟
ولماذا كانت تلك التحولات الحادة فى المشاعر والمواقف؟
بأى نظر موضوعى فإن الفارق هو حجم الإنجاز الاجتماعى الوطنى الذى تحقق بين عامى (1954) و(1970)، وحجم ما حلق فى الأفق العام من آمال وأحلام لامست عمق اعتقاد جيل الأربعينيات الذى ينتسب إليه «يوسف إدريس» و«صلاح عبدالصبور».
رغم الهزيمة العسكرية فى (1967) بقيت الأحلام تراود نفس الجيل، رغم انكسارها.
فى مقاربات الرحيل بدا كلاهما مستعدا أن يموت كى يحيا المعنى فى رجل عارضاه ذات يوم.
………………..
………………..
«لن يتركونى أبدًا».
كانت عبارته قاطعة، وهو يتوقع أن يلاحقوه حتى ينالوا منه «قتيلًا، أو سجينًا، أو مدفونًا فى مقبرة مجهولة».
كان يُدرك أن القوى التى يحاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مروعًا.
بدت الكلمات ثقيلة على الابن الصبى، وهو يستمع إليها ذات مساء من شهر ديسمبر (1969) عند ذروة حرب الاستنزاف كما روى «خالد عبدالناصر».
ربما أطلق «جمال عبدالناصر» هذه الكلمات، بكل حمولاتها السياسية والإنسانية، فى ذات اليوم الذى استمع فيه إلى تسجيلات التقطتها ميكروفونات حديثة فى مدخل السفارة الأمريكية وصالونها وغرفة الطعام والبهو الأعلى بمبناها، فى العملية التى أطلق عليها «الدكتور عصفور» كما كشف الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
كان الكلام المسجل، الذى استمع إليه وكتب نصه على ورق أمامه، بتاريخ اليوم السادس من هذا الشهر، بالغ الخطورة إلى حد دعا رئيس المخابرات المصرية «أمين هويدى» أن يحمله بنفسه دون إبطاء إلى الرئيس.
وفق ما هو مسجل فإن قيادات الدولة العبرية توصلت إلى استنتاج أن «بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسم، أو بالمرض خشية أن يُفضى أى إنجاز عسكرى للقوات المصرية إلى مد جديد لحركة التحرر الوطنى فى العالم العربى لا تقدر على صده».
هناك شبهات أخرى رواها «هيكل» ترجح أنهم وصلوا إليه ب«السم» فى فنجان قهوة يوم انعقاد القمة العربية الطارئة لوقف حمامات الدم فى شوارع عَمان، التى توفى بعد انتهاء أعمالها، غير أنه لم يكن متأكدًا من صحة ما اشتبه به.
أثيرت الشكوك نفسها حول الوفاة المفاجئة ل«عبدالناصر» فى شهادة للفريق «محمد صادق»، رئيس أركان القوات المسلحة فى ذلك الوقت ووزير الدفاع بعد أحداث «مايو» (1971).
«الكل وقد داهمتهم وفاة عبدالناصر حتى وإن لم تكن الوفاة مفاجأة بالنسبة للبعض، بدأوا يتكتلون ويناورون ويتقاتلون حول من يخلف المسجى جثمانه بداخل قصر القبة».
صراعات السلطة مسألة طبيعية فى مثل هذه الأحوال.
يستلفت الانتباه ما كتبه عن أن الوفاة لم تكن مفاجأة بالنسبة للبعض، دون أن يُفصح على أى أساس توصل إلى استنتاجه.
إذا لم تكن الوفاة مفاجأة كاملة يصعب التعويل على فرضية الوصول إليه بالسم.
«كانت الساعات شديدة الوطأة، فبعض الأطباء يرفضون كتابة شهادة وفاة لعبدالناصر، ويصرون على تشريح الجثة لتأكيد شكوكهم. وقد أخبرنى الدكتور رفاعى كامل أنه يشك فى أن الرئيس مات مسمومًا، وأن أظافره زرقاء اللون تضاعف من شكوكه، وأنه ليس وحده الذى يشك فى ذلك، وأنهم يريدون أن يقطعوا الشك باليقين».
لم تكن الشكوك وليدة لحظة استجدت حساباتها واستدعيت تساؤلاتها من الذاكرة، بل كانت ماثلة فى لحظة الوفاة المفجعة دون أن يكون ممكنًا فى أية لحظة أى حسم.
الشكوك طبيعية لكنها لا تجزم.
لسنوات طويلة بعد رحيل «عبدالناصر» نُشرت قصص تنفى ما هو معلن عن أسباب رحيله المفاجئ.
فى (30) سبتمبر (1986) أصدر ثلاثة من أطبائه الشخصيين الدكتور «منصور فايز» والدكتور «زكى الرملى» والدكتور «الصاوى حبيب» بيانًا مشتركًا يصحح ما أشيع أيامها عن أسباب الوفاة سلمه صهره «حاتم صادق» إلى مكتب رئيس تحرير صحيفة «الأهرام»، غير أنه لم يُنشر.
مما قيل وتردد منسوبًا إلى كبير أمناء الرئاسة «صلاح الشاهد» أن «عبدالناصر أصيب بغيبوبة سكر فى مطار القاهرة بعد توديعه أمير الكويت عند انتهاء مؤتمر القمة العربى الطارئ، وأن طبيبه المرافق الدكتور «حبيب» أعطاه حقنة «أنتستين بريفين» أفضت إلى وفاته.
لم يكن ذلك صحيحًا بشهادة الأطباء الثلاثة».
بالوثائق والشهادات رفع الدكتور «حبيب» دعوى قضائية ضد كبير أمناء الرئاسة، لإثبات بطلان ذلك الاتهام وكسبها.
من أسباب كسبه الدعوى القضائية التى رفعها أن «أنتستين بريفين» ليست حقنًا وإنما نقط للأنف، وأنه قد أعطى الرئيس حقنة قلب قبل ساعتين من وفاته.
بتوصيف الدكتور «حبيب» للأزمة الصحية الخطيرة التى داهمت «عبدالناصر» فى مطار القاهرة الدولى: «كان العرق على جبهته باردًا ولونه شاحبًا ونبضه سريعًا وضغطه منخفضًا وأطرافه باردة، وكانت تلك علامة على صدمة قلبية عطلت حوالى (40٪) من عضلاته».
مما قيل وتردد منسوبًا للدكتور «رفاعى كامل» استشارى القلب أن «عبدالناصر» توفى ب«غيبوبة سكر» دون أن يعلن فرضية الوصول بالسم التى ذكرها فى وقته وحينه لرئيس الأركان.
فرضية «غيبوبة السكر» نفاها الدكتور «حبيب» جازمًا بأن الدكتور «رفاعي» انقطعت صلته بمنشية البكرى قبل ثلاث سنوات، ولم يكن فى وضع يسمح له بالحكم الطبى الدقيق.
ومما قيل وتردد منسوبًا إلى خبير العلاج الطبيعى «على العطفى» أنه قام بعمل تدليك لساقى الزعيم الراحل بمادة سامة قضت على حياته.
بما هو ثابت لم يدخل هذا الرجل، الذى قُبض عليه يوم (18) مارس (1979) بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، منزل «عبدالناصر» أبدًا.
أدانه القضاء بالتهمة المشينة، وقد اعترف بها مراهنًا فى ظروف وملابسات الصلح المصري الإسرائيلى على تدخل ما ينقذه من حبل المشنقة.
بتدخل من رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت «مناحم بيجين» لدى شريكه المصرى فى معاهدة الصلح «أنور السادات»، الذى قاسمه جائزة «نوبل» للسلام، خفف الحكم عليه إلى السجن المؤبد.
«السادات» رفض العفو عنه، وقد يكون من أسبابه ما تردد من أنه قام بتدليك ساقيه هو نفسه حسب روايات شاعت دون تأكيد.
فى ظروف وملابسات معاهدة السلام حاول «العطفي» أن يُضفى على نفسه «بطولة إسرائيلية» تزكى سعيه للعفو، فأخذ يروى للمسجونين أنه هو الذى سمم «عبدالناصر».
كادوا يفتكون به وكان ممن استمعوا إليه خلف الجدران الشاعر «أحمد فؤاد نجم».
كأى بطل تراجيدى من هذا الحجم فى التاريخ فإن السجال لن يتوقف حول الطريقة التى انتهت بها حياة «عبدالناصر».
الأرجح أنه رحل بأزمة قلبية ثانية نالت منه بعد يوم طويل فى قمة عربية منهكة، لكنه لا يمكن استبعاد احتمال أنهم وصلوا إليه ب«السم».
مات على سريره بعلة قلب، أو لأى سبب طبى آخر، وربما بأثر سم، وقد كان النيل من حياته هدفًا دائمًا للاستخبارات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية، حسب وثائق متاحة ومنشورة.
لا أدخل سجنًا ليحاكمه أعداؤه على مشروعه ومعاركه، وبقيت صورته فى التاريخ بالاتفاق أو الاختلاف أهم شخصية عربية فى العصور الحديثة.
ولا دفن فى مقبرة مجهولة لا يعرف أحد أين هى، وضريحه فى منشية البكرى بالقرب من منزله، الذى تحوّل إلى متحف، لا يزال مزارًا لكل من ألهمته ذات يوم تجربته فى العدل الاجتماعى والتحرر الوطنى.
كانت جنازته بحرًا من الدموع حسب تعبير وكالات الأنباء العالمية وقتها.
لم تتحقق نبوءته، التى أطلقها ذات مساء أمام نجله الصبى «خالد عبدالناصر».
«أعتقد أن والدى مات بالإرهاق بأكثر مما مات بأزمة قلب ثانية فى أيلول الأسود».
«سيرته الصحية ترتبط بتواريخ السياسة.. أثناء الحصار الاقتصادى الذى فرضه الغرب على مصر أصيب بمرض السكر عام 1958.. وبعد نكسة 1967 نالت منه مضاعفات السكر بصورة خطرة.. إرهاق العمل المتواصل ليلًا ونهارًا فى سنوات حرب الاستنزاف أصابه بأزمة قلب أولى. أزماته الصحية كان يمكن السيطرة عليها، أما الإرهاق وتحدى أوامر الأطباء فلا سبيل لتداركها. من عرف عبدالناصر فى تلك الأيام كان يُدرك بسهولة أنه غير مستعد للنوم مرتاحًا، أو الاستمتاع بأى شيء، قبل إزالة آثار العدوان».
كانت تلك شهادة رواها صديقى الراحل الدكتور «خالد عبدالناصر» عن قصة المرض وأيام النكسة وحرب الاستنزاف والرحيل المفاجئ، وما بعد الرحيل من قصص إنسانية ترتبت على انقلابات السياسات المصرية بعد أن غربت «يوليو» ووارى الثرى زعيمها.
غلبت البكائيات على ما كان يتذكره من وقائع حتى خشيت عليه من التوحد مع الماضى.
ذات مرة والساعة تقترب من الرابعة صباحًا عند أوائل عام (2003) ران صمت طويل تقطعه نوبات بكاء كأن «عبدالناصر» مات الآن.
على خط هاتفى آخر من داخل نفس البيت كان معنا شقيقه «عبدالحميد» ندقق بعض تفاصيل ما جرى فى بيته يوم رحيله.
انهار هو الآخر ودخل فى بكاء مرير.
صمت تمامًا، لم أعلق بكلمة واحدة وتركت المشاعر تأخذ مداها لعل البكاء يريح.
بعد ثورة «يناير» بشهور قليلة رحل «خالد»، بعد معاناة مع المرض، غير أن روايته الكاملة لما كان يجرى خلف الأبواب الموصدة تظل أهم الروايات للجانب الآخر فى شخصية «جمال عبدالناصر».
الأب قبل الرئيس والإنسان قبل السياسى.
………………..
………………..
«قبل ذهاب والدى لمصحة «تسخالطوبو» فى الاتحاد السوفيتى عام (1968) للاستشفاء قضى شهرًا كاملًا فى فيللا المعمورة بالإسكندرية فوق سرير المرض متأثرًا بمضاعفات مرض السكر.
كان أبى وأمى يعيشان بالدور الثالث.
دخلت عليه فى غرفة النوم. وجدته يتأوه من الألم. رآنى، حاول أن يخفى علامات الألم.
كنا نحس به، ولكنه نجح لحد كبير فى خداعنا والتهوين علينا.
لم نعرف أنه أصيب بأزمة قلبية. حتى فوجئنا بالثانية القاتلة. حتى أمى لم تعرف. لا أسامح نفسى على أننى لم أفهم معنى إقامة مصعد ببيت منشية البكرى فى (14) ساعة، لأن أبى أصيب بأزمة قلبية تمنعه من صعود السلم للدور الثانى.
صاحبناه والدتى وأنا وشقيقاى «عبدالحميد» و«عبدالحكيم» فى رحلة العلاج لمصحة «تسخالطوبو». تحسنت حالته الصحية هناك. لم يكن مسموحًا لنا الحضور فى جلسات العلاج.
قضينا أوقاتًا رائعة ولم نكن قلقين على صحته، نجح فى خداعنا».
فى الساعة الخامسة من مساء (28) سبتمبر (1970) كنت انتهيت لتوى من تدريب كرة يد بنادى هليوبوليس فى ضاحية مصر الجديدة.
جلست مع أصدقائى فى «التراس» نحتسى الشاى والقهوة وعلى المائدة المقابلة «داليا فهمي» زوجتى فيما بعد.
لم يكن هناك شيء غير عادى.
مؤتمر القمة الطارئ انتهى بنجاح.
أبى يعود اليوم للبيت بعد أربعة أيام قضاها فى فندق هيلتون النيل للمشاركة فى القمة.
لم أكن أعرف أنه لم ينم ولم يرتح طوال هذه الأيام لوقف نزيف الدم الفلسطينى فى عَمان.
رأيت أمامى فجأة «عصام فضلي»، وهو ضابط من قوة الحراسة الخاصة بالرئيس، لم يحدث من قبل أن أرسل والدى لاستدعائى ضابطًا من حرسه الشخصى.
قال لى: «تعال.. عايزينك فى البيت». لم يزد حرفًا.
فى أقل من خمس دقائق وصلت، صعدت سلم البيت قفزًا بتساؤل يكاد يشل الروح: «ماذا حدث؟». فكرت فى كل احتمال، لم يخطر على بالى ما حدث.
حركة غير عادية فى الدور الثانى بغرفته.
الباب مفتوح.
أبى أمامى على السرير مرتديًا بيجامة، طبيبه الخاص الدكتور «الصاوى حبيب»، يحاول إنقاذ حياته بصدمات كهرباء للقلب.
السيد «حسين الشافعي» بزاوية الحجرة يصلى ويبتهل إلى الله.
الدكتور «الصاوي» قال بلهجة يائسة كلمة واحدة: «خلاص».
الفريق أول «محمد فوزي» نهره بلهجة عسكرية: «استمر».
ثم أخذ يجهش بالبكاء.
نفذ أمر الله.
أخذت الأصوات ترتفع بالنحيب.
لم أبكِ.
وقفت مصدومًا. بكيت بمفردى بعد أسبوعين لثلاث ساعات مريرة.
لم أصدق أن أبى رحل فعلًا.
أمى أخذتها حمى أحزانها، أخذت فى البكاء والنحيب كأى زوجة تنعى رجلها و«جملها».
جاء «أنور السادات» وتبعته على عجل السيدة «جيهان» بفستان أزرق.
«السادات» نهرها: «امشى البسى أسود وتعالي».
بدأ توافد كبار المسئولين فى الدولة على البيت.
بعد قليل اجتمع عدد كبير من الوزراء وقيادات الدولة فى الصالون، تقرر نقل جثمان الرئيس لقصر القبة، حيث تتوافر هناك إمكانات الحفاظ عليه فى درجة تبريد عالية لحين إحضار ثلاجة خاصة لهذه الحالات، والانتهاء من إجراءات الجنازة وإعلان الخبر الحزين على الشعب.
بدأت الإذاعة والتليفزيون فى بث آيات من القرآن الكريم.
لم يدر أحد ما حدث، حاولت «داليا» الاتصال بى للاطمئنان.
أخيرًا أمكنها الوصول لعامل «السويتش».
قال وهو يبكى: «الريس مات».
حملت قوة الحراسة الشخصية جثمانه على نقالة إسعاف، بلا غطاء، وجهه مكشوف، ابتسامة رضا تعلوه، رائحة الموت كريهة، لكنها بدت لى مِسكًا.
تابعت أمى الجثمان المحمول على نقالة إسعاف بنحيب دوى فى المكان، الذى كان للحظات قليلة مضت المقر الذى تدار منه مصر وصراعات المقادير على المنطقة.
قال لها «السادات» على طريقة أهل الريف فى مثل هذه الأحوال: «يا تحية هانم.. أنا خدامك».
مضى أبى أمام عيوننا محمولًا على نقالة إسعاف، لم يعد. لم نره مرة أخرى.
لم تذهب معه أمى ولا أحد من أبنائه لقصر القبة.
أمى جلست على السلم تنتحب.
ما زال يدوى فى وجدانى بكاء أمى الملتاعة وهى تجرى وراء الخروج الأخير ل«عبدالناصر» من بيت منشية البكرى:
«وهو عايش خدوه منى. وهو ميت خدوه منى».
………………..
………………..
ما جرى خلف الأبواب المغلقة، كما تكشفها رواية «خالد عبدالناصر»، يعطى فكرة عن فداحة صدمة الرحيل المفاجئ، ومدى الحزن الاستثنائى الذى شهدته مصر فى ذلك اليوم البعيد قبل (48) عاما، لكنه لا يجيب عن سؤال الملف الغامض: هل وصلوا فعلا إلى «عبدالناصر» بالسم؟
السؤال سوف يظل مطروحا لآجال طويلة مقبلة، يلح ويضغط بقدر الدور الذى لعبه والشعبية التى حازها والتهديد الذى مثّله لمصالح واستراتيجيات غربية وإسرائيلية سعت للوصول إليه والتخلص منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.