الأطباء قتلوا أبي بسوء استخدام تكنولوجيا المضادات الحيوية كان خبر وفاة جمال عبدالناصر كزلزال هز جدران بيت الرئيس.. وانخلعت قلوب كل من فيه.. أسرته المكونة من الزوجة والأولاد والبنات.. وكبار رجال الدولة الذين كانوا يحيطون بعبدالناصر والموت يحوم حوله ويرسم خطته بإحكام.. ثم ينفرد به وحيدا لأول مرة بلا صحبة ولا صخب وينقض عليه وينال مأربه. خالد عبد الناصر.. النجل الأكبر للرئيس يرحمهما الله هو الأقدر بغير شك علي وصف ماحدث في الليلة الأخيرة في بيت جمال عبدالناصر. يقول خالد عبدالناصر: قبل أن أحكي تفاصيل الليلة المشئومة.. أعود بذاكرتي إلي الأيام الأولي من حقبة الثمانينات، حيث التأمت الأسرة في قاعة السينما في الدور الأرضي من منشية البكري.. وقاعة السينما بالأصل صالة طعام رئيسية كان يستضيف فيها الرئيس ضيوفه الكبار علي موائد العشاء.. جلست أمي تحية كاظم وحدها علي كرسي في الصف الأول، وجلست في الخلف مع زوجتي داليا فهمي، وكان معنا شقيقاي عبدالحميد وعبدالحكيم بصحبة زوجتيهما إيمان ونجلاء.. كانت أحاديثنا في ذلك المساء عادية حول شئوننا الاجتماعية، ولم نتوقع أننا بصدد حادث عاصف بالمواجع القديمة.. أخذ عامل السينما اعبدالعظيمب يستعد لعرض شريط سينمائي حديث، ولكنه أخطأ في الشريط وفوجئنا بالعرض يبدأ وصورة أبي علي غير انتظار تطل علي الشاشة ومشاهد الملايين الملتاعة تزحف خلف نعشه بأنشودة وداع صاغتها بعفوية االوداع يا جمال يا حبيب الملايينب.. الشريط السينمائي عنوانه اأنشودة الوداعب للمخرج علي عبد الخالق.. شيء أقرب إلي الصاعقة ضربنا.. أمي غرقت في بكاء مرير بصوت مرتفع، ومع بكاء أمي أخذتنا الدموع إلي مدي بعيد.. لم نتصور منذ لحظات وبعد عشر سنوات تقريبا من وفاة أبي أننا سوف نذهب إليه، كأنه مات الآن، كأننا فقدناه الآن.. شعرنا بحسرة الفراق، وكما لم يحدث من قبل.. لم أستطع متابعة الشريط السينمائي وغادرت القاعة مسرعا. في استراحة المعمورة بقميص أزرق طويل وبنطلون رمادي خفيف وقف أبي ذات مساء من الصيف الأخير في شرفة واسعة علي يسار استراحة المعمورة في الإسكندرية، الاستراحة تواجه البحر مباشرة.. كنا في مطالع الصبا نلهو علي البحر، وأبي يتابعنا من بعيد ويتمشي أحيانا في البلكونة، وأحيانا ينزل للتمشي علي البحر.. كان يشاور لنا من بعيد، ونحن نرد التحية بحماسة.. كنا متعلقين به بصورة لا تصدق.. كانت مشيته في الصيف الأخير تبدو عادية أو لعله أراد بعناده المعروف أن يتحدي المرض، وأن يخفي آلامه عنا، وأن يبدو طبيعيا.. بدت حالته الصحية بالنسبة لي اتحت السيطرةب، لم يكن هناك مايقلق ولا خطر في بالنا أن هذه آخر أيامنا مع جمال عبد الناصر، غير أن ضغط الأحداث عليه من الاستعداد لتحرير الأراضي المحتلة بقوة السلاح إلي مجازر أيلول الأسود أخذ ينال من صحته ويضع قلبه في مرمي نيران النهاية. كان مرة قال لي: لن يتركوني أبدا، ونهايتي إما مقتولا أو سجينا أو في مقابر الغفير.. كان يدرك أن القوي العاتية التي حاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مريعا، وعندما حدثت هزيمة يونيو كان تصوره أن يطالب الناس بشنقه في ميدان التحرير، فإذا بالملايين يخرجون مطالبين القائد المهزوم بالبقاء، وكما لم يحدث في التاريخ من قبل. كنا علي مائدة غداء ذات يوم عام 1970، ولسبب ما قلت: مضت ثلاث سنوات.. وكنت أتحدث عن موضوع شخصي مضت عليه هذه الفترة، التفت عبدالناصر تجاهي، قال وكأنه يحادث نفسه: ثلاث سنوات؟!.. كانت هذه السنوات قد مضت علي النكسة.. لم ينس أبدا هذا الجرح. الجنرال الذهبي 9 مارس 1969، استشهد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المصرية علي جبهة القتال الأمامية، صدمة عبدالناصر باستشهاد رياض بدت صاعقة.. كان يراهن علي االجنرال الذهبيب في تحرير أراضينا المحتلة بقوة السلاح.. ثقته بالكفاءة العسكرية لرياض كانت بلا حدود، لكنه شعر أيضا بالفخر لاستشهاد رئيس أركان حرب القوات المسلحة علي جبهة القتال.. مصر تغيرت، ونفضت ثياب الهزيمة بإرادة المقاتلين وبدماء الشهداء، وهو المعني الذي التقطه مئات الألوف التي خرجت تودع رياض في جنازة مهيبة اخترقت ميدان التحرير من جامع عمر مكرم.. أصر الرئيس علي أن يتقدم صفوف الجنازة وتحدي إجراءات الأمن وأراح رجال الأمن وذاب وسط الجماهير، كان لديه إيمان صوفي بالجماهير، يشعر بالتوحد معها، وبأنه في مأمن تماما بحمايتها، رجال الأمن أصابهم الفزع.. اقترب أحد ضباط الحراسة من الرئيس بصعوبة شديدة وقال: يا أفندم كفاية كده، نهره عبدالناصر بيده ومضي في الجنازة حتي نهايتها متأثرا بهتاف الشعب ارياض مامتش والحرب لسه مانتهتشب. تقصير الأطباء حتي الآن.. ورغم مضي كل هذه السنوات الطويلة يساورني شعور طاغ بتقصير الأطباء في علاج الرئيس إلي حد كبير، حاولوا إرضاء الرئيس علي حساب صحته، قد تفرض أجندة الالتزامات أن يلقي خطابا جماهيريا أو يعقد اجتماعا سياسيا في ظل أزمة صحية تستدعي أن يستريح.. يقول للأطباء: عاوز أروح أخطب فيلتزمون بما طلب دون مناقشة أو اعتراض، يعطونه مضادات حيوية من أقوي جرعة ممكنة.. وفي اعتقادي أن هذا النوع من العلاج بتسكين الألم لمقتضيات السياسة هو أقرب إلي سوء استخدام تكنولوجيا المضادات الحيوية، وقد أنهك صحة أبي بصورة خطيرة.. ليس من واجب الطبيب أبدا أن يستجيب لطلبات المريض، حتي ولو كان رئيس الجمهورية، ليس من واجب الطبيب حين يقول له الرئيس: تعال أديني حقنة ريفالين أن يكون الرد الفوري حاضر.. لا أغفر لأطباء عبدالناصر هذا التساهل المفرط في مقتضيات العلاج. السيرة الصحية لوالدي ترتبط بتواريخ السياسة.. أثناء الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب علي مصر أصابه مرض السكر عام 1958.. بعد نكسة 67 نالت منه مضاعفات السكر بصورة خطرة.. إرهاق العمل المتواصل في الليل والنهار لتحرير الأراضي المحتلة بقوة السلاح أصابه بأزمة قلب، وأزماته الصحية كان يمكن باستمرار تداركها.. مضاعفات السكر تحت السيطرة عليها، أما الإرهاق وتحدي أوامر الأطباء بالراحة فلا سبيل لتداركهما.. من عرف عبدالناصر في تلك الأيام كان يدرك بسهولة أنه غير مستعد للنوم مرتاحا أو الاستمتاع بأي شيء قبل إزالة أثار العدوان. كان يصرخ من الألم عام 1968 قبل ذهاب والدي لمصحة تسخالطوبو في الاتحاد السوفيتي للاستشفاء قضي شهرا كاملا في الإسكندرية علي سرير المرض متأثرا بمضاعفات مرض السكر. فيللا المعمورة ثلاثة أدوار وأبي وأمي يعيشان في الدور الثالث.. دخلت عليه ذات يوم في غرفة النوم فوجدته يتأوه من الألم.. حاول أن يخفي علامات الألم.. كنا نحس به، لكنه نجح في خداعنا والتهوين علينا.. لم نعرف أنه أصيب بأزمة قلبية حتي فوجئنا بالثانية القاتلة، حتي أمي لم تعرف.. لا أسامح نفسي حتي الآن علي أنني لم أفهم أن إقامة المصعد في بيت منشية البكري في 21 ساعة تعني أن أبي أصيب بأزمة قلبية تمنعه من صعود السلم للدور الثاني.. صاحبنا الرئيس، والدتي وأنا وشقيقاي عبدالحميد وعبدالحكيم في رحلة العلاج لمصحة تسخالطبو في الاتحاد السوفيتي، تحسنت حالته الصحية هناك، لم يكن مسموحا لنا بالحضور معه في جلسات العلاج.. قضينا في تسخالطوبو أوقاتا رائعة، لم نكن قلقين علي صحته.. لعله نجح في خداعنا ومازلت أعتقد أن والدي مات بالإرهاق أكثر مما مات بأزمة قلب أيلول الأسود. نصحة الأطباء بممارسة الرياضة، بدأ يلعب التنس في ملعب خلفي في البيت، مدربه اسمه اغريبب مازال يمارس التدريب حتي الآن في نادي القوات المسلحة في الجلاء منذ الخمسينات.. كان أبي يلعب التنس مع محافظ القاهرة صلاح الدسوقي، بعودة أبي لممارسة الرياضة كنا نقول له: عايزين نلعب معاك يابابا، ونستمر في خبط الكورة.. كنا نلعب معه أحيانا كرة القدم.. يشوط أبي الكرة ويقول: أجر ياخالد.. كنت أسمع كلامه كجندي وأجري أسابق الريح لإحضار الكرة، وفي السنوات الأخيرة عندما بدأ يتألم من مضاعفات مرض السكر، كان يطلب مني أن أرتدي أحذيته الجديدة الناشفة ويقول: البس الجزمة يومين طريها واديها لي. 28 سبتمبر 1970 28 سبتمبر 1970 الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم كنت انتهيت لتوي من تدريب كرة اليد في نادي هيلوبوليس في ضاحية مصر الجديدة، جلست مع أصدقائي في التراس نحتسي الشاي والقهوة، كانت علي المائدة المقابلة داليا فهمي زوجتي فيما بعد.. لم يكن هناك شيء غير عادي، مؤتمر القمة الطارئ لإيقاف نزيف الدم في عمان انتهي بالنجاح، أبي يعود اليوم للبيت بعد أربعة أيام قضاها في فندق هيلتون النيل للمشاركة في القمة وإجراء الاتصالات الضرورية.. لم أكن أعرف أنه لم ينم ولم يرتح طوال هذه الأيام بسبب أنه لابد من وقف نزيف الدم الفلسطيني.. فجأة رأيت أمامي عصام فضلي، وهو ضابط من قوة الحراسة الخاصة بالرئيس، لم يحدث من قبل أن أرسل والدي لاستدعائي ضابطا من حرسه الشخصي قال لي تعال عاوزينك في البيت.. ولم يزد حرفا.. في أقل من خمس دقائق وصلت، صعدت سلم البيت قفزا بتساؤل كاد يشل الروح: ماذا حدث؟.. فكرت في كل احتمال، ولم يخطر علي بالي أبدا ماحدث. حركة غير عادية في غرفة الرئيس، الباب مفتوح، أبي أمامي علي السرير مرتديا بيجامة.. طبيبه الخاص الدكتور الصاوي حبيب يحاول إنقاذ حياته بصدمات كهرباء للقلب.. السيد حسين الشافعي في زاوية الحجرة يصلي ويبتهل إلي الله.. الدكتور الصاوي قال بلهجة بائسة كلمة واحدة: خلاص.. الفريق أول محمد فوزي نهره بلهجة عسكرية: استمر.. ثم أجهش بالبكاء.. نفذ أمر الله، أخذت الأصوات ترتفع بالنحيب.. لم أبك.. وقفت مصدوما.. مات أبي .