بعد يوم مثير انتصرت فيه الرياضة على السياسة ، وتباينت فيه ردود الأفعال بين أفراح وابتهاج ودموع وحزن ، واختفت فيه لغة المؤامرات والاتهامات المتبادلة ، وحلت محله الروح الرياضية التي تدعو إليها المباديء الأوليمبية ، حظيت مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية بشرف استضافة دورة الألعاب الأوليمبية عام 2016 متفوقة على العاصمة الإسبانية مدريد في الدور الحاسم من عملية التصويت التي شهدتها العاصمة الدنماركية كوبنهاجن ، بينما حققت شيكاجو وطوكيو فشلا ذريعا ، حيث خرجت الأولى من الدور الأول ، بينما لحقت بها طوكيو في الدور الثاني. وكان السبب الرئيسي وراء الفوز الكبير الذي حققته ريو دي جانيرو – تلك المدينة البرازيلية الشاطئية الكبيرة والمزدحمة – على حساب مدن أفضل منها بمختلف الحسابات هو رغبة اللجنة الأوليمبية الدولية في منح حق استضافة الأوليمبياد للمرة الأولى إلى قارة أمريكا الجنوبية ، باعتبار أن هذا الشرف اقتصر حتى الآن على قارات أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية والأوقيانوسيا فقط. واستضافت بكين الدورة الأوليمبية الأخيرة عام 2008 ، في حين تنظم لندن الألعاب المقبلة عام 2012 ، في حين أن البرازيل ستنظم أيضا نهائيات كأس العالم لكرة القدم عام 2014. وعلى الرغم من حضور عدد كبير من الشخصيات السياسية لدعم ملفات المدن المرشحة ، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي حضر خصيصا مع زوجته ميشيل لدعم ملف شيكاجو – مسقط رأسه - وهو ملف قوي بالفعل ، فإن الدور الرئيسي والأكبر من الناحية السياسية كان للرئيس البرازيلي لويز إينياسيو لولا دا سيلفا ، حيث نجح في إقناع الحاضرين من أعضاء اللجنة الأوليمبية الدولية البالغ عددهم الإجمالي 106 أعضاء - باختيار ريو دي جانيرو لاستضافة الأوليمبياد على حساب باقي المدن. وفي كلمة مؤثرة وقوية وحماسية للغاية ، قال دا سيلفا أمام الحضور صباحا خلال الدفاع عن ملف ترشيح مدينته "ريو جاهزة تماما .. اعطونا هذه الفرصة" ، مشيرا إلى "حدود جديدة" ستمثلها هذه الألعاب التاريخية بالنسبة للحركة الأوليمبية. كما كانت مداخلة البرازيلي جواو هافيلانج رئيس الاتحاد الدولي السابق لكرة القدم "الفيفا" - 93 عاما - مؤثرة أيضا عندما دعا جميع أعضاء اللجنة الأوليمبية إلى الاحتفال بعيد ميلاده المائة في ريو! وبدأت عملية التصويت بمفاجأة مدوية ، حيث خرجت شيكاجو من الدور الأول من التصويت على عكس ما كان متوقعا ودون معرفة سبب حقيقي أو فعلي لهذه الخطوة حتى الآن ، ثم خرجت طوكيو من الدور الثاني باعتبار أنها سبق لها أن استضافت الأوليمبياد في عام 1964 ، لتنحصر المنافسة بين مدريد وريو دي جانيرو ، وفضل المقترعون في النهاية منح أمريكا الجنوبية شرف الاستضافة. وكان كثيرون يتوقعون أن يحسم حضور أوباما بكاريزميته المعتادة إلى كوبنهاجن الأمور لصالح شيكاجو ، ولكن المنافسة الانتخابية ظلت رياضية حتى اللحظة الأخيرة ، فعاد أوباما بخفي حنين ، ولم يتضح ما إذا كان ملف شيكاجو هو الذي خذله وحرمه من فرصة إضافية لدعم شعبيته داخليا ، أو إذا كان هو الذي خذل شيكاجو باعتبار أن أعضاء اللجنة الأوليمبية رأوا في التصويت لشيكاجو بسبب وجوده حيادا عن مبادئهم التي تنطلق من أسس رياضية لا سياسية. ولكن أفضل ما يقال في هذا المقام هو أن وسائل الإعلام الأمريكية تعاملت مع الحدث بكل بساطة ، وأعطت الحدث حجمه الحقيقي تماما ، دون مبالغة في توجيه اتهامات إلى أحد بالتقصير أو الحديث عن التربيطات الانتخابية والمؤامرات والدسائس ، بل إن خبر فوز ريو وهزيمة شيكاجو لم يعد يحتل المساحات الرئيسية في وسائل الإعلام الأمريكية صباح أمس ، بعد أن طويت صفحة ملف "أوباما – شيكاجو" بنهاية يوم الجمعة! واكتفى البيت الأبيض بالإعلان عن أن الرئيس الأمريكي أصيب بخيبة أمل ، وقال روبرت جيبس المتحدث باسم البيت الأبيض على متن الطائرة التي أعادت أوباما من العاصمة الدنماركية : "الرئيس أصيب بخيبة أمل كبيرة بقدر ما تتخيلوا". وفور إعلان جاك روج رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية عن فوز المدينة البرازيلية ، انفرجت مظاهرات الفرح في شتى أنحاء ريو بعد أن أصبح حلمها حقيقة ، وقال سيرجو كابرال حاكم ولاية ريو دي جانيرو : "إنه لأمر لا يصدق ومدهش واستعراضي" ، في حين شوهد أسطورة كرة القدم البرازيلي بيليه وهو يجهش بالبكاء من شدة تأثره. وأطلق عشرات الآلاف من سكان ريو الذين غزوا منذ الصباح شاطيء كوباكابانا الشهير صيحات الفرح وتعانقوا ورقصوا تحت أمطار من قصاصات الورق حين أعلن رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية فوز مدينتهم ، وتحمل المشاركون حرارة الشمس المرتفعة لعدة ساعات على وقع موسيقى الروك ورقص السامبا ، وتم بسط علم عملاق بمساحة 2200 متر مربع يزن 800 كيلوجرام من أجل تحية اللجنة الأوليمبية الدولية ، وهو يحمل عبارة "ريو تحبكم" باللغة الإنجليزية. وفي المقابل ، ظهر الوجوم على وجوه عشرات الآلاف من الأمريكيين الذين تابعوا نتيجة التصويت عبر شاشة تليفزيونية عملاقة في شيكاجو ، وعلق مذيع هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي." على هذا المشهد بقوله "الأفواه هنا مفتوحة من الدهشة"! كما اكتفى المسئولون عن الملف الإسباني بمصافحة بعضهم البعض ، وظهر النجم راؤول جونزاليس وهو يحاول الابتسام ، ولكن الحزن ومشاعر خيبة الأمل كانت بادية على الجميع ، خاصة وأن المدريديين ما زالوا يشعرون بشيء من المرارة لأن برشلونة سبقتهم إلى تنظيم الدورة الأوليمبية. وربما كانت نقطة الضعف الوحيدة في ملف مدريد هو أن الألعاب الأوليمبية المقبلة ستقام في القارة الأوروبية وتحديدا في لندن عام 2012 ، علما بأن التقليد يقضي بانتقال الدورة من قارة إلى أخرى في كل مرة من دون أن يكون هذا الأمر قاعدة ثابتة. وكانت لدى رئيس الوزراء الإسباني خوسيه لويس ثاباتيرو شكوك حول حظوظ العاصمة ، إلا أنه قدم مداخلة قوية في كوبنهاجن أيضا ، كما ساهم وجود الرئيس الفخري للجنة الأوليمبية الدولية خوان أنطونيو سامارانش في الحصول على بعض الأصوات. وناشد سامارانش - 89 عاما - أعضاء اللجنة الأوليمبية بعبارات مؤثرة بقوله "أيامي معدودة في هذه الحياة .. إذا منحتم مدريد صوتكم سأكون سعيدا جدا"! وبدت بوضوح أيضا صدمة المسئولين عن ملف عاصمة اليابان التي تعتبر قوة اقتصادية في العالم ، وذلك لأن رسالتهم حول تحسين الأمور البيئية ومنح الفرصة للشباب لم تكن مقنعة لدى أعضاء اللجنة الأوليمبية الدولية. والطريف أن الرئيس البرازيلي الذي بكى هو الآخر بعد إعلان فوز ريو أعرب عن أسفه لشيكاجو وأوباما وباقي رؤساء وقادة الدول المنافسة على هذه النتيجة ، ولكنه قال : "لو فازت شيكاجو ، لكانت المرة الخامسة التي تستضيف فيها الولاياتالمتحدة الألعاب ، وإسبانيا للمرة الثانية ، واليابان أيضا للمرة الثانية ، أما بالنسبة لنا فإنها المرة الأولى". وأضاف : "لدي رسالة لصديقي القريب رئيس وزراء إسبانيا خوسيه لويس ثاباتيرو ، لباراك أوباما الذي أعلق عليه آمالا عريضة ، إنه زميل رائع ، ولرئيس وزراء اليابان الذي لا أعرفه ، لأن هذا هو واقع اليابان ، فإنك تقول صباح الخير لرئيس وزراء ومساء الخير لرئيس وزراء مختلف! أقول لهم ، أعذروني لأنني سعيد وأنتم حزانى ، لكن لطالما كنتم أنتم سعداء ونحن حزانى للغاية". وروى لولا واقعة سمعها صباح الجمعة من أحد أعضاء ملف ريو دي جانيرو : "يجب أن تعلموا أننا نأتي من بلاد كانت مستعمرة ، لذا اعتدنا التفكير على مستوى حجمنا بالترافق مع الشعور بعدم الاكتراث". وأضاف : "عندما عرض التليفزيون الدنماركي مشاهد وصول أوباما إلى مطار كوبنهاجن ، سمعت الناس يقولون : آه ، لقد أتى ، سنخسر .. وكان أوباما قد قال لي خلال قمة الثماني الأخيرة إنه لن يأتي لأنه سيضع الملف بين يدي زوجته ميشيل ، وأجبته إذا لم تذهب إلى كوبنهاجن سأفوز أنا ، لكنه عاد وأتى ، وبمشيئة الله تمكننا من الفوز"! نتائج التصويت - الدور الأول : مدريد : 28 صوتا - ريو دي جانيرو : 26 صوتا – طوكيو : 22 صوتا – شيكاجو : 18 صوتا (خرجت). - الدور الثاني : ريو دي جانيرو : 46 صوتا – مدريد : 29 صوتا – طوكيو : 20 (خرجت) - ورقة بيضاء واحدة. - الدور الثالث والنهائي : ريو دي جانيرو : 66 صوتا – مدريد : 32 صوتا - ورقة بيضاء واحدة. ريو في سطور عدد السكان : 6 ملايين نسمة (11 مليونا مع التجمعات المحيطة بها) شعار المدينة : "عش هواك" موعد الاستضافة : من 5 إلى 21 أغسطس 2016 ، أي بعد عامين تقريبا على إقامة كأس العالم لكرة القدم في البرازيل. الميزانية الأولية للألعاب الأوليمبية : 82ر2 مليار دولار للدورة نفسها ، و4ر14 مليار دولار لإجمالي ما هو خارج نطاق الألعاب "رقم قياسي" خصوصا ما يتعلق بالبنى التحتية والنقل (5ر5 مليار دولار). أبرز السلبيات : الفقر والجرائم وقدم نظام النقل.