هذا مقال ضائع. سيتلاشى أثره ويضيع وسط طوفان حب وعرفان خلفه رحيل مؤسف للكاتب أحمد خالد توفيق، أو "العراب" كما عرفه محبوه. لم أكن للأسف من قرائه أو المتأثرين بكتاباته. كما أنني لسوء حظي لم أعرفه بشكل شخصي. التقينا مرة واحدة عقب ندوة كان متحدثا مشاركا فيها عن رسام الكاريكاتير العبقري الراحل حجازي. لم تكن أفضل ما حضرت من ندوات، وقدرت وقتها أن منظمي الندوة أرادوا الاستفادة من شعبيته بين قارئي الكوميكس فطلبوا منه الحديث، وأبى هو أن يرد طلبهم. بعد الندوة وقفت أمامه في صف قصير انتظر دوري للتوقيع على العمل الوحيد الذي اقتنيته له: أثر الجرادة. تعرف علي، لا لأنه قرأ لي إذ كان من الواضح أنه ليس من القلة التي ربما قرأت بعض ما أكتب، ولكن لأن بعض ما قلته من مقعد الجالس في الندوة عن حجازي وعن فن الكاريكاتير لفت نظره. سألني مهتما وتبادلنا حوارا أتبعه بأن طلب مني بأدب بالغ رقم هاتفي لنتابع حوارا وجده شيقا. خجلت من أن أطلب منه رقم هاتفه ومضت الأيام دون أن يهاتفني أو يحدث لقاؤنا الموعود. أنتمي إلى القطاع الواسع من الناس الذين أدهشهم كم هذا الحزن عليه. ولكنني بالتأكيد لست من بين من أثار هذا الحزن حفيظتهم أو استياءهم أو ذائقتهم الأدبية ليصدروا حكما بالتفاهة على أجيال كاملة. أدهشني الحزن وأوغلت في أسبابه فاحترمت حزن المحزونين وصرت واحدا منهم. فهم ما حدث لا علاقة له بأية مقارنات بين توفيق وبين غيره من الكتاب. والقول بأنه "كاتب ألغاز" لا يفسر هذا الحزن الجماعي العظيم الذي امتد من مصر إلى دول عربية أخرى. سبق توفيق إلى الرحيل الأستاذان محمود سالم ونبيل فاروق ولهما فضل السبق في إدخال هذا النوع من الكتابة للناشئة إلى مصر. ولكن فقدهما لم ينتج عنه أثر يذكر إذا ما قورن بما حدث مع أحمد خالد توفيق. هناك أسباب متباينة لتفسير انزعاج من انتفضوا بسبب الحزن على الرجل. منهم "دولجية" وجدوها فرصة للمزايدة على حب الوطن بتشويه الرجل الذي كانت جريمته الوحيدة عندهم هو أنه لم ينضم معهم إلى مواكب المهللين للسلطة. ومنهم المثقفون النخبويون الذين أزعجهم أن يخرج الناس عن وصايتهم فيقدرون كاتبا دون إذن منهم. موقف الكارهين لحبه يفسره في النهاية رعب سلطوي من مجموعات اتفقت مراميها على وجوب ألا يبتهج الناس أو يرقصون أو يحزنون أو يرثون إلا بأمر أو إذن أو توجيه. ما عدا ذلك باطل وربما خيانة. لم يحظ أحمد خالد توفيق بهذا الكم من الحب بكتابة أعمال أدبية فذة، بقدر ما حققها بقدرة فائقة على إمتاع جيل كامل بكتاباته الشيقة التي غرست فيهم شغف المعرفة وحب الاستطلاع. لم تكن كتابات توفيق مرحلة، بقدر ما كانت نقلة. لم تقدم تسلية وإمتاعا فحسب، ولكنها أخذت بيد جيل كامل أحب القراءة على يديه، وتعرف من خلاله على آفاق جديدة، وثقافات مغايرة، وعوالم مختلفة، وكتاب آخرين. جعلهم هذا أفضل وجعل بعضهم كتابا. فرد واحد بتواضع مفرط ودأب نادر وإخلاص وحب شفيفين قام بما لم تقم به مؤسسات الدولة دونما مقابل سوى الحب. احترم الرجل قراءه في كتاباته وفي حياته الخاصة. لم يتعال عليهم أو يفرض أبوية زائفة وقدم نصحا شخصيا لعشرات وربما مئات. لم يحاول أن يغرس في أذهان الشباب وعيا مفتعلا أو يدس بين سطور قصصه "قيما" شكلية. فعل ما هو أهم وأبقى. أرشد أجيالا كاملة لمتعة تشكيل الوعي وعرفهم على وسائل العلم ومناهله. عشرات الوريقات والرسائل الصغيرة ألصقها محبوه حول شاهد قبره تشي بحجم هائل من العرفان (شاهد بعضها هنا bit.ly/utobia) أختار منها عبارة كتبها أيمن خالد تقول: شكرا يا من أوجد في قلبي شغف القراءة. أكثر من ورقة ولافتة أسندها أصدقاؤه على مدخل قبره كتبوا عليها عبارة قيل إنه رغب في أن تكتب على شاهد قبره "جعل الشباب يقرأون". رحمة الله وغفرانه للعبقري المدهش الصلب الهاديء الرقيق أحمد خالد توفيق