النديم: 314 انتهاك في مايو بين تعذيب وإهمال طبي واخفاء قسري    بعد انخفاضه.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم الأحد 9 يونيو (آخر تحديث بالبنوك)    لميس الحديدي توجه رسالة للحكومة بشأن قطع الغاز الطبيعي عن مصانع الأسمدة    السعودية تبعد 300 ألف شخص من مكة لعدم حملهم تصاريح الحج    أبو عبيدة: الاحتلال قتل بعض أسراه في عملية النصيرات .. وحماس :مقاومتنا لا زالت تحتفظ بالعدد الأكبر    ما عدد العمليات التي نفذها حزب الله تجاه إسرائيل؟    "نيويورك تايمز": قنبلة أمريكية صغيرة تقتل عشرات الفلسطينيين في غزة    الصومال: مقتل 47 إرهابيا خلال عملية عسكرية بمحافظة جلجدود    الأزهر يدين واقعة مخيم النصيرات ويطالب أصحاب الضمير الحر بنصرة غزة    متحدث "فتح": على الولايات المتحدة أن تجبر قوات الاحتلال بوقف إجراءاتها العدوانية بحق شعبنا    المجر: الغرب يسعى لإلحاق هزيمة عسكرية بروسيا من أجل ملء جيوبه    "هناك من يفتون".. رئيس مكافحة المنشطات يكشف آخر تطورات أزمة رمضان صبحي    ياسر إدريس: لا ينقصنا لاستضافة الأولمبياد سوى إدارة الملف    "دا مينفعش يتقاله لا".. القيعي يكشف أسرار تعاقد الأهلي مع ميدو    طارق قنديل يتحدث عن.. سر نجاح الأهلي ..البطولة الأغلى له.. وأسعد صفقة بالنسبة له    البروفة الأخيرة قبل يورو 2024.. إسبانيا تسحق أيرلندا الشمالية وديًا    عاجل - تصل ل44 درجة.. تحذير خطير بشأن حالة الطقس.. والأرصاد تحذر المواطنين    إصابة 6 أشخاص في تصادم سيارة وتروسيكل بالإسماعيلية    مصرع طفل عقب تعرضه للدغ عقرب فى جرجا بسوهاج    ليلى عبداللطيف تتسبب في صدمة ل أحمد العوضي حول ياسمين عبدالعزيز (فيديو)    نزار جمعة فى ندوة وداعا جوليا: نحن جيل ضائع والفيلم يلامس الحقيقة بطريقة مؤلمة    ما أهم الأدعية عند الكعبة للحاج؟ عالم أزهري يجيب    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بعيادة الجلدية ووحدة طوسون الصحية    مدرب حراس المنتخب: مصطفى شوبير حارس متميز وشخصيته في الملعب أقوى من والده    تصفيات مؤهلة لكأس العالم.. مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    الولايات المتحدة وفرنسا تقدمان خارطة طريق لرؤيتهما حول القضايا الملحة في العالم    إزالة فورية للتعدي على الأراضي الزراعية بقرية بني صالح في الفيوم.. صور    يربط ب"طريق مصر أسيوط الزراعي".. صورة ترصد تطوير طريق أبو ربع في البدرشين بالجيزة    موجة حارة جديدة تضرب البلاد الثلاثاء.. هل تستمر حتى عيد الأضحى؟    ننشر أوائل الشهادة الابتدائية بمنطقة الوادي الجديد الأزهرية    علم بعلاقتها مع آخرين.. اعترافات قاتل عشيقته ب13 طعنة في الخليفة    زراعة القاهرة تحصل على شهادة الأيزو لجودة المؤسسات التعليمية.. وعميد الكلية: جهد جماعي    عقوبة تصل ل مليون جنيه.. احذر من إتلاف منشآت نقل وتوزيع الكهرباء    حدث بالفن| صفعة عمرو دياب لأحد المعجبين ومفاجأة حول اعتزال شيرين رضا ونجوم الفن بحفل إطلاق فعاليات منصة سيني جونة    حظك اليوم برج الجدي الأحد 9-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    ارتفاع سعر الفراخ البيضاء والبيض الأبيض والأحمر بالأسواق اليوم الأحد 9 يونيو 2024    ما هي أيام التشريق 2024.. وهل يجوز صيامها؟    دعاء ثالث ليالي العشر من ذي الحجة.. اللهم بشرنا بالفرح    أيمن موكا: الجونة لم يبلغني بمفاوضات الزمالك ولم أوقع    وزير الصحة يتفقد مستشفى رأس الحكمة والضبعة المركزي بمحافظة مطروح    استقرار سعر الحديد والاسمنت بسوق مواد البناء اليوم الاحد 9 يونيو 2024    قومي حقوق الإنسان يكرم مسلسل بدون سابق إنذار (صور)    «تخلص منه فورًا».. تحذير لأصحاب هواتف آيفون القديمة «قائمة الموت» (صور)    انتصار ومحمد محمود يرقصان بحفل قومي حقوق الإنسان    وزير الصحة يوجه بسرعة توفير جهاز مناظير بمستشفى الضبعة المركزي    وزير التعليم الفلسطيني: تدمير 75% من جامعاتنا والمدارس أصبحت مراكز للإيواء    حظك اليوم برج العذراء الأحد 9-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج الميزان الأحد 9-6-2024 مهنيا وعاطفيا    وزيرة الثقافة تُعلن انطلاق الدورة السادسة من«مواسم نجوم المسرح الجامعي» وتُكرم عددًا من نجومه    تحرير 40 مخالفة تموينية فى حملة على المخابز والمحال والأسواق بالإسماعيلية    هل بدأت إثيوبيا في توليد الكهرباء من سد النهضة؟.. عباس شراقي يُجيب    جامعة المنوفية تشارك في مبادرات "تحالف وتنمية" و"أنت الحياة" بقوافل تنموية شاملة    فضل صيام العشر من ذي الحجة 1445.. والأعمال المستحبة فيها    وكيل صحة الشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى أبو كبير المركزي    أسماء أوائل الشهادة الابتدائية الأزهرية بشمال سيناء    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة خلال مايو 2024    وزير الأوقاف: الأدب مع سيدنا رسول الله يقتضي الأدب مع سنته    العمل: تشريع لحماية العمالة المنزلية.. ودورات تدريبية للتعريف بمبادئ «الحريات النقابية»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا وأنفى ورف من الذكريات
نشر في الشروق الجديد يوم 01 - 11 - 2017

فتحت الكيس الكبير دون تفكير، مدفوعة بلهفتى إلى رؤية محتواه، فقد وصل الكيس للتو من دمشق. ربما كان يجب على أن أتروى، أن آخذ نفسا عميقا وأحضر نفسى للقاء. ربما كان يجب أن أفتح الكيس بتأن حتى أتفادى الصدمة. فتحت الكيس وانتقلت كما أليس فى بلاد العجائب إلى خان الصابون، انتقلت إلى ورشة صغيرة فى حلب تكثف البخار فيها عند سقف الغرفة، بينما وقف عدد من العمال حول قدر كبيرة ولفوا مناشف صغيرة حول رقابهم لتمتص العرق. فى الكيس أمامى أجيال كاملة تستحم استعدادا للعيد، وجدة ما زالت شابة تفرك الأجساد الصغيرة بصابون الغار.
***
وصلنى من دمشق كيس كبير فيه صابون بلدى، صابون مصنوع من زيت الزيتون وورق الغار، مصنوع من حب من حافظ على جزء من هوية لم تدمرها الحرب. وصلنى مع الصابون صوت جدتى وهى تساعدنى على الاستحمام فتغنى لى وهى تفرك شعرى «يا شعرات تمارا يا قصاقيص الدهب».
***
حين كتب الروائى الفرنسى باتريك سوسكند قصة «العطر»، فاجأ قراءه بفكرة أن يكون شخص بلا رائحة. أنا نفسى حين قرأت الكتاب أخذت بعض الوقت لأستوعب فكرة الكاتب. باستطاعتى أن أصف بإسهاب بعض الروائح، وأن أنتقل فى لحظة ودون قرار منى إلى بلاد بعيدة، فأقف فى حضرة أشخاص لم يعودوا موجودين أصلا، حين تنسل إلى داخلى رائحة عطر استخدمه ذلك الشخص ذات يوم. لكننى لم أفكر قط فى إمكانية غياب الرائحة أو غياب العطر.
أنا نفسى كثيرا ما أدس أنفى فى رقبة أولادى وهم نيام، أغمض عينى لأشمهم، أو بالأحرى لأخزن فى ذاكرتى رائحة مرحلة من حياتهم أشعر أننى أحتاج إلى أن أوثقها من خلال حاسة الشم. أتخيل أحيانا أن يتطور العلم فيتمكن كل شخص من تغليف رائحة بورق ملون كورق الهدايا ويحتفظ به حتى يحتاج إلى جرعة منه.
***
أنا عن نفسى سوف أصنع رفا خشبيا على عرض حائط بأكمله لأرص عليه ما غلفته. ورقة زرقاء زرقة السماء، فيها رائحة صابون الغار عندما يرغى، فى حمام بخاره كثيف: عمرى ست سنوات والمكان هو بيت جدتى. ورقة وردية لرائحة كعكة جوز الهند، خبزتها أمى بعد ظهر يومى خريفى: عمرى اثنتا عشرة سنة والمكان هو مطبخ بيتنا فى دمشق. ورقة خضراء لرائحة قشر البرتقال وهو يحترق فوق مدفأة الصوبيا فى يوم بارد: عمرى ست عشرة سنة والمكان هو بيت جدتى من جديد. ورقة بيضاء لرائحة الثوم وهو يذوب فى زيت الزيتون وقت الغداء: عمرى واحد وعشرون عاما وأحاول أن أقلد طبخ أمى فى بيت الطلبة، فيحترق الزيت ويرن جهاز الإنذار من الحريق. ورقة فضية لرائحة عطر فرنسى، يبدو لى أن أساسه مزيج من خشب الصندل ونكهة الفانيليا: عمرى خمسة وعشرون عاما وأشم العطر على معصمى فى أحد المطارات، فأقرر أننى دخلت فى مرحلة النضج. ورقة برتقالية برائحة عادم السيارات، فى صباح محمل بنور الشمس وتلوث الجو، ومحمل بوعد لقاء الرجل الذى أحبه: عمرى ثلاثون عاما والمكان هو القاهرة. وهكذا سوف أستمر برص لحظات التقطها أنفى فخزنها على هيئة روائح، أسترجعها فى كل مرة أقرر فيها أن أعيد النظر فى موقف أو أعيد الفرح لشىء حدث، أو حتى أتصالح مع يوم حاولت مرارا أن أمحوه من حياتى إلا أن رائحته لم تتركنى.
***
حين دخل والدى بالأمس إلى منزلى كعادته مساء كل يوم، اختلطت علىّ التفاصيل وأنا أستقبله عند الباب. رأيته رجلا خمسينيا يعود من عمله فى يوم كأيام كثيرة مرت علينا. وقفت فى المدخل أبحث عن والدى الذى هو جد أطفالى، لكنى رأيت مكانه رجلا لا أحفاد له. أيقنت وقتها أن ثمة ما يعيدنى نحو عشرين عاما إلى الوراء، لكنى لم أضع يدى على السر حتى وضع السر يده علىّ فى اليوم التالى: لقد عاد أبى إلى عطر كان يستخدمه فى زمن سابق وبعيد، زمن ما قبل الحرب وقبل الأحفاد وقبل رائحة علبة الأدوية التى يفتحها يوميا للحفاظ على صحته.
***
الشم أكثر الحواس لؤما وأكثرها قدرة على المباغتة. الشم يخطفنى فى لحظة ويرمينى فى زمن مضى، فأخرج رأسى منه كمن يتخبط ليخرج رأسه من تحت الماء حتى يتنفس. ها أنذا أكاد أغرق فى بحر الذكريات، بينما يأتينى صوت من بعيد ينصحنى بأن أسترخى حتى أتمكن من الشهيق والزفير. يبقى جسدى تحت الماء بينما يخرج رأسى إلى الزمان والمكان القديمين. وهنا، فى منتصف وجهى، يمد أنفى لسانه بعد أن نجح فى سحب البساط من تحتى ككل مرة فأكاد أن أقع. أتخيل الروائح كأفعى الحاوى ترقص على نغم الذكريات، تتمايل على إيقاع أحاسيس صاحبها، فتربت عليه بحنية تارة وترفسه بشدة تارة أخرى.
***
فى الكيس الكبير أحجام وأشكال مختلفة من صابون الغار. أشعر وكأن كل قطعة منها تغفو فى يد جدتى، ثم تستفيق عندما تمسح بها على رأسى برفق. فى الكيس الكبير قرون من الصناعة اليدوية، وحكايات من البيوت العائلية الكبيرة، وأيام بأسرها فى حمامات السوق القديمة. هناك، همس أحد العاملين وهو يصب الزيت الصافى «فى كل صابونة حكاية، وفى كل حكاية طفلة عمرها ست سنوات تستحم مع جدتها التى تغنى لها. فى كل صابونة سيدة تغنى لابنتها «يا شعرات بنتى يا قصاقيص الدهب».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.