إنهاء التعاقد مع أحد معلمي الحصة بالجيزة لعدم قيامه بالشرح داخل الفصل    تنظيم ورشة عمل حول التوثيق العلمي في البحوث والرسائل بجامعة بني سويف    285 فرصة عمل جديدة في شركة «إس آي وايرنج سيستمز إيچبت» بالسويس    الأولى إيطاليا ب 1.9 مليار دولار.. ارتفاع صادرات مصر للاتحاد الأوروبى 11.1% فى 6 أشهر.. وانخفاض طفيف في قيمة التبادل التجاري ب1.8%    «180 جنيها في الجرام».. أسعار الذهب تواصل الهبوط بمنتصف تعاملات الثلاثاء    تفاصيل برنامج عمل الرئيس السيسي في القمة المصرية الأوروبية غدا    وزير الاستثمار يستعرض جهود الدولة في دعم الاستثمار وريادة الأعمال    وزير المالية: نتطلع إلى وضع رؤية مشتركة لقيادة التحول الاقتصادي نحو تنمية أكثر عدالة وشمولًا واستدامة    متحدثة باسم الحكومة الإسرائيلية: ملتزمون بوقف النار في غزة    «الأغذية العالمي»: تدفق المساعدات إلى غزة لا يزال أقل بكثير من المستهدف    «ساركوزي سجينا».. الرئيس الفرنسي الأسبق يصل إلى السجن لقضاء عقوبته    الصين تدعو الحكومة اليابانية إلى الوفاء بالالتزامات بشأن التاريخ وتايوان    طوكيو: تعيين وزير الزراعة السابق وزيرا جديدا للدفاع فى اليابان    أمير عبد الحميد بعد رحيله عن الأهلي: لنا عودة    أفشة مطلوب لحل أزمة الإسماعيلي    منتخب مصر يواجه نيجيريا فى ديسمبر ومفاضلة بين مالى والكاميرون استعدادا لأمم أفريقيا    بعد أزمة إمام عاشور.. الأهلي يبدأ التفاوض لتجديد العقود ودور مهم ل سيد عبدالحفيظ    حبس صاحب محل موبايلات بقضية المتهم بقتل زميلة وتقطيع جثتة بالإسماعيلية    طقس السعودية اليوم.. أمطار رعدية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    هل يشترط وجود محرم للسيدات دون 45 عاما لأداء مناسك الحج؟ التضامن تجيب    ب4 طعنات.. تفاصيل وفاة سيدة على يد طليقها في المنوفية    إصابة 10 أشخاص فى حادث تصادم بالشرقية    «شوف جدول مرحلتك».. جدول امتحانات شهر أكتوبر 2025 لصفوف النقل في محافظة الإسكندرية    لحظة بكاء يسرا وحسين فهمي بالجونة السينمائي بعد عرض فيلم عن معاناة الفلسطينيين (فيديو)    أمينة خليل تكشف حقيقة صلة القرابة مع حورية فرغلي : مش بنت خالتي (فيديو)    كنوز الفرعون الذهبى كاملة لأول مرة ب"المتحف المصرى الكبير" بعد 103 سنة على اكتشافها.. عرض مقتنيات توت عنخ أمون فى قاعتين على مساحة 7500 متر.. القناع الذهبى والتوابيت والمقاصير وكرسى العرش أبرزها.. فيديو وصور    بدء عرض فيلم السادة الأفاضل بسينما الشعب فى 7 محافظات غدا    محمد ثروت ومروة ناجى بقيادة علاء عبد السلام فى مهرجان الموسيقى العربية    «بيلاقوا راحتهم لوحدهم».. 5 أبراج تحب العزلة والهدوء    بعد سرقتها من متحف اللوفر.. تعرف على قلادة الزمرد التاريخية| تفاصيل    ليست مجرد مشاعر عابرة.. "الإفتاء" توضح موقف الإسلام من محبة أهل البيت    هل شدّ الرحال لزيارة مساجد آل البيت مخالف للسنة؟.. أستاذ الفقه بجامعة الأزهر يجيب    استشاري: ماء الفلتر افضل من المياه المعدنية للأطفال    زيادة إصابات الجدرى المائى داخل مدرسة فى المنوفية إلى 18 طالبا    «طلاب من أجل مصر» جامعة سوهاج تنظم لقاءً حاشدًا بعنوان «من القلب إلى القلب» بمشاركة رئيس الجامعة    الدفاع الروسية: استهداف منشآت البنية التحتية للطاقة الأوكرانية    «شعري ابيض خلاص».. حامد الشراب يؤكد نهاية «مسرح مصر» للأبد| خاص    رئيس البرلمان العربي يطالب بتشكيل مجموعة عمل لدعم جهود تثبيت التهدئة بغزة    غدًا.. بدء عرض فيلم «السادة الأفاضل» بسينما الشعب في 7 محافظات    الجالية المصرية ببروكسل تستقبل الرئيس السيسي بالأعلام والهتافات    الحكومة تنفي وجود قرار رسمي بزيادة الأجور    "الابتكار في إعادة تدوير البلاستيك".. ورشة ببيت ثقافة إطسا| صور    ذكرى إغراق المدمرة إيلات| القوات البحرية تحتفل بعيدها الثامن والخمسين.. شاهد    ضبط 3 تشكيلات عصابية تخصصت في سرقة السيارات والشقق والدراجات النارية بعدة محافظات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-10-2025 في محافظة الأقصر    دار الإفتاء توضح حكم تصدق الزوجة من مال زوجها دون إذنه    وكيل تعليم الفيوم يشهد فعاليات تنصيب البرلمان المدرسي وتكريم الطالبات المتميزات على منصة "Quero"    انطلاق مؤتمر "ICaTAS 2025" بالقاهرة لتعزيز التعاون العلمي مع ماليزيا    المستشفيات التعليمية تستضيف فريقًا إيطاليًا لجراحات قلب الأطفال بمعهد القلب    وزير الصحة يبحث مع السفير الفرنسي تنفيذ خطة لتقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة    عضو الجمعية المصرية للحساسية: ضعف المناعة والتدخين أبرز محفزات ارتكاريا البرد    إصابة 13 شخصا إثر انقلاب ميكروباص فى العياط    ما حكم الاحتفال بالموالد مثل مولد سيدنا الحسين والسيدة زينب؟ وما حكم أفعال بعض الناس خلال الموالد من الذبح والنذور وغيرها من الطقوس ومظاهر الاحتفال؟ وما حكم تشبيه بعض الأفعال الخاصة فى الاحتفالية بمناسك الحج؟    ميدو: كنا نسبق الكرة المغربية.. والعدل في الدوري سبب التفوق    بالصور.. بدء التسجيل في الجمعية العمومية لنادي الزمالك    مباريات اليوم الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 والقنوات الناقلة    نيويورك تايمز: إدارة ترامب تضغط على نتنياهو لعدم تقويض الاتفاق مع حماس    الدماطي: ياسين منصور الأنسب لرئاسة الأهلي بعد الخطيب.. وبيراميدز منافسنا الحقيقي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صابونة الجدة التى رحلت
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 01 - 2016

فاجأتنى جدتى حين ظهرت أمامى فى محل يبيع الصابون البلدى فى بيروت، رأيتها تجلس على الكرسى وراء ماكينة الخياطة، أمام الشباك فى بيتها حيث النور أفضل، تخيط لى فستانا أبيض بأكمام قصيرة، تدوس بقدمها على قاعدة ماكينة الخياطة بحركة متواصلة إلى فوق وتحت، فتتحرك الإبرة فى خط متواصل من الخيط عبر القماش. هنا يظهر الكم، هنا يظهر طرف الفستان. أقيسه وتضع جدتى فيه الدبابيس عند الكتف حتى تضيقه قليلا. يشكنى الدبوس فأصرخ، وتفرك لى كتفى ليخف الوجع. ماكينة الخياطة سوداء وعليها كتابات باللون الأصفر، ماركتها سينجر، مركبة على طاولة خشبية مستطيلة ونحيلة يوجد فى أسفلها دواسة للضغط بالقدم تحرك بها جدتى الماكينة.
تعود جدتى فى خاطرى إلى الحياة مع رائحة الغار والبخور التى تفوح من المحل فى بيروت. أمشى داخله وكأننى مخدرة فألحق الرائحة حتى أصل إلى سلة فيها مكعبات صابون كتلك التى كانت تستخدمها جدتى للاستحمام. أذكر كم كنت أكره رائحة صابون الغار البلدى أو الحلبى، كما يسميه الكثيرون نسبة إلى مدينة حلب التى اشتهرت بصناعة هذا النوع من الصابون الطبيعى المستخرج من زيت الزيتون وورق الغار، وهى صناعة لم تتغير كثيرا عبر التاريخ فى مدينة يقال إنها تنتج الصابون منذ ألفى عام قبل الميلاد. كنت أستغرب لماذا تصر جدتى أن تدعكنى بصابونة لا رائحة لها، أو لا رائحة عطرة فواحة لها على الأصح. «تيتة ما بحب الريحة» كنت أقول عند كل حمام. «ليش ما منستعمل شامبو متل كل الناس؟» كانت جدتى تشرح لى ساعتها فوائد مكونات الصابونة الطبيعية للبشرة، ولم أكن أهتم.
عرفت بعد ذلك أن لتلك الصابونة استخدامات كثيرة، فعدا عن الاستحمام بها، يستخدم الصابون البلدى المبشور فى تنظيف السجاد اليدوى بطريقة تحافظ على الخيوط والألوان، نظرا لعدم احتواء هذا الصابون على مواد اصطناعية. كما أنه كثيرا ما تدس سيدة الدار قطعا من هذا الصابون فى أدراج وخزائن الثياب، على الأغلب تكون من النوع الذى مزجت به عند صناعته مادة معطرة كالمسك أو الورد برائحتهما المميزة، فتدغدغ هذه الروائح الأنف فى كل مرة نفتح فيها درجا أو باب خزانة لنسحب قطعة ثياب. يتفنن الحلبيون خصوصا فى تصنيع صابون الغار المعطر، فيعجنونها بماء الورد أو المسك أو العنبر ويعملون منها كعكات مستديرة يستعملونها لتعطير الجسم والشعر وترطيبه أو تدس بين الثياب كما كانت جدتى تفعل وتبعتها أمى فى ذلك.
***
اليوم تتغنى بعض محلات مستحضرات التجميل العالمية باحتواء منتجاتها على خلاصة زيت الزيتون وورق الغار، وتظهر فى المجلات دعايات لصابون خاص للوجه يعيد له نقاءه بفضل عدم احتوائه على مواد كيميائية وبسبب تركيز زيت الزيتون فيه. «دون رائحة» يقول الملصق على الصابونة، أين أنت يا جدتى حين كنت تردين على سؤالى بقولك «فى أحلى من ريحة الغار والزيتون؟ لما تطلعى من الحمام حطى شوية ماء ورد على قطنة وادهنى فيها وجهك وشوفى كيف بتصيرى تلمعى». كنت أرفع عينى إلى فوق فى إشارة إلى عدم الرضا لكن لم أكن أرد فجدتى كبيرة ولن تغير أفكارها.
أقف فى القسم الذى يبيع الصابون فى المحل الأنيق، أتنشق هواء المكان فأشم البخور والزيتون وتلك الرائحة المسكية المميزة، يطل وجه جدتى الصافى من وراء قماش أبيض شفاف فى أطرافه دانتيل، تبتسم وأنا أقرب صابونة من أنفى وأستنشق. أشعر بحضن تيتة الدافئ حين كنت أنام معها فى سريرها وأطلب منها أن تحكى لى قصة سفر برلك، تلك الحملة العثمانية الفاشلة لتحرير قناة السويس من البريطانيين عام 1915 والتى راح ضحيتها أكثر من 1000 شاب وأرسل على إثرها آلاف الآخرين للقتال فى أوروبا بالنيابة عن الدولة العثمانية.
تختلط قصة جدتى بقصص رحيل الشباب والوجع السورى اليوم، وأعود طفلة بعمر أولادى فأسألها عن الحرب كما يسألنى ولدى. أخرج من المحل حاملة الصابون، أشعر أننى سأفتح علبة الذكريات كل مرة أفتح فيها خزانتى بعد أن أضع الصابون فيها. سوف أسأل جدتى عن تفاصيل الحرب وصفارات الإنذار، عن ضيق الموارد وتقنين الطعام، سأسألها عن صوت الطائرات الحربية وعن قلوب الأمهات حين يفقدن أولادهن. لن أعرف كيف أحكى لها عن مأساتنا اليوم، لن أعرف ما أقول لها عن الدمار الذى حل بسوريا والموت الذى خيم على شبابها. لن يكون عندى أجوبة شافية عن تحول الأطفال إلى أشلاء وعن حكايات لم نسمع عنها حتى فى القصص المرعبة التى كانوا يحكونها لنا أحيانا عن الغول الذى داس على مدينة بأكملها فحولها إلى فتات.
***
يعود أناس نحبهم إلى الحياة أحيانا مع رائحة معينة تستحضر موقفا محفورا فى باطننا، نسترجع أفراحا أو أحزانا مع نغمات تنقلنا إلى هناك، نتمسك ببعض من أنفسنا حين نلعب مع الذاكرة فنكتب عن صابون الغار أو عن رائحة جوزة الطيب فى السوق. هى صور نمطية عن حياة عشنا أغلبها وقطعا لعب الخيال والحنين دورا فى تشكيل جزء منها. التمسك بهذه التفاصيل ليس تقليلا من فظاعة ما يحدث فى سوريا على حساب التركيز على أمور حياتية مضت، فلا شىء يمكن أن يفصلنا عن بشاعة الموت ووحشية الاعتقال. التمسك بالتفاصيل يعيد بعض ما مات إلى الحياة، ففى مكان ما فى داخلنا توجد مساحة صغيرة خاصة وحميمة نحاول أن نحافظ عليها بإبقائها بعيدة عن عملنا اليومى، عن انخراطنا بالسياسة وبالشأن الإنسانى، هناك مساحة صغيرة جدا تريد لرائحة صابون الغار أن تطغى على رائحة البارود، ولصوت ماكينة الخياطة أن تغطى على دوى الانفجارات. فى هذه المساحة أشعر أن جدتى ما زالت حية، وأنها تلبسنى الفستان الأبيض يوم العيد، بعد أن تكون قد حممتنى بصابونة حلبية مربعة انبرت زواياها من الاستعمال.
كاتبة سورية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.