التقوى معيار سمو وكمال، فهى إحساس العبد بأنه موصول بربه يكفيه بما ينفعه، «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ» (الزمر 36) وتمد التقوى صاحبها بثبات لا يتزحزح، فحينما يقال لك اتق الله... فإنك تدعى إلى الارتقاء رغم عدم نقصانك وتدعى إلى الامتياز والسبق رغم إتقانك وإحسانك. فالتقوى تستدعى دوام الرقى والسمو والجهاد والاجتهاد وعدم الغرور والركون إلى قول القائل (ليس فى الإمكان أبدع مما كان)، فما من يوم يجىء إلا وتتعدد الأشياء، وتتعقد الأزمات فلابد أن تجدد القوى وتتحتم زيادة الجهد، ألم تر أن الله جل جلاله قال لرسولنا صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاتُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيما) (الأحزاب 1). وأنت تعرف حال رسولنا ومدى خشيته لربه، ومع ذلك يجىء الأمر بالتقوى طلبا للزيادة والجهد والاجتهاد.. لهذا سلك الزهاد هذا الطريق يترفعون به على الدنيا ويصومون عن كل الشهوات والرغبات ولا أمل لهم إلا أن يكون عطاؤهم أكبر وأكبر مما يأخذون بل لا يشتهون إلا ما يقوى به الجسد على الجهد والحياة فهؤلاء الزهاد يدعون ربهم: اللهم لا تذيقنا طعم أنفسنا. فماذا يقصدون بطعم النفس؟ جاء رجل لأحد هؤلاء الزاهدين وقال له : ادعو الله لى ولصاحبى، فقال الشيخ بماذا؟ فقال الرجل: اقترض رجل منى مائة دينار وضاعت منى ورقة الوثيقة فادع الله لى أن يرد الله على حقى، ولصاحبى أن يثبته الله على الحق فلا ينكر الدين. قال الشيخ: اشترى لى شيئا من الحلوى، وأنا أدعو لك.. وذهب الرجل يشترى الحلوى طمعا فى دعوة الشيخ له، وعند بائع الحلوى، فوجئ الرجل أن الحلوانى يلف له الحلوى فى الوثيقة المفقودة منه، فسعد وفرح وأخذ الحلوى وذهب إلى الشيخ، وقال له ها هى الحلوى، وقد أكرمنى الله فوجدت الوثيقة، ففرح الشيخ وقال له، اطعم هذه الحلوى لأبنائك.. قال الرجل: لقد طلبتها انت وقلت انك تشتهى الحلوى. قال الشيخ: نعم يا بنى اشتهى الحلوى، ولكن هل يعطى الإنسان نفسه كل ما تشتهيه!! إن النفس لا تشبع وإذا أعطيتها حاجة طلبت غيرها وتترقى فى التشهى، والضغط على أعصاب صاحبها، حتى لتريد النفس أن تشارك الله فى الوهيته، اعتراضا على قضائه وفرارا من شرعه، وبغضا لأهله، وحبا للشيطان وهجرا للقرآن (...إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...) (يوسف 53) ومن يا ترى أولى بالزهد؟ هؤلاء الذين لا يملكون أم هؤلاء الذين اتسعت خزائنهم لحقوق الناس، وتضخمت شهواتهم حتى ليعيشوا بين الناس أنصاف آلهة وربما أكبر. إن الزهد هو ترك كثرة الحلال الذى تملكه وما تقدر عليه، فما بالك بهؤلاء الذين احتكروا ضرورات الناس وفرضوا شهواتهم على الخلق.. هل يكفيهم الزهد فيتجردوا مما اختطفوه أم أنهم بحاجة إلى توبة نصوح تعيد الحقوق لأصحابها أم على أقل تقدير يمتنعون عن أكل أموال الناس بمختلف ألوان الباطل، تلك الألوان التى تعددت بأسماء حرية التعبير، حرية البيع، ثم الولاية والهيمنة على الناس بغير حق ثم دعاوى الاستقرار والاستمرار، وحقوق للسلطات بلا واجبات للمواطنين، وواجبات على ناس بلا حقوق يجيون بها. إن الأسوة الحسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم الدنيا كيف تصوم عن الحلال وكيف تتعالى على الحرام وتترفع عن الشبهات. ومن بعده أصحابه الذين حرموا على أنفسهم المال العام حتى يشبع الجميع. فهذا عمر بن الخطاب يمر بأطراف الجزيرة فيسمع بكاء أطفال تحاول أمهم أن تعللهم حتى يناموا جياعا، فينادى عمر على المرأة: يا أمة السوء انظرى أبناءك، فتقول المرأة وهى لا تعرفه: حسبى الله فى عمر بن الخطاب فإنه لا يفرض من بيت المال إلا للفطيم وقد تعجلت فطام هذين حتى أحصل على عطاء بيت المال. فيقول عمر: ويلك يا عمر كم قتلت من أبناء المسلمين، ابعثوا المنادين يأمرون الناس ألا يتعجلوا فطام الأبناء فقد تقرر العطاء لكل مولود هكذا تجد عمر يهتم لأمر الأطفال من عامة الناس، دون أن يفكر فى أبهة السلطان وما يلزمها من إسراف يبلغ التبذير. ترى ماذا كان يفعل عمر لو علم أن ملايين الشباب والشابات لا يقدرون على الزواج ولا حتى كسب العيش؟!