إقليم عربى.. أم ماذا؟

فى الإقليم الذى نعيش فيه، وعلى حدوده، وفى العالم الخارجى يتحدثون عن مصيره، يخمنون الهوية التى سوف يعرف بها النظام الإقليمى الجديد. يرشحون دولة عربية أو مجاورة للعرب لتقود، دولة تزيد الأمور تعقيدا أو ترفع عن كاهل شعوبه المتاعب وإرهاصات الخوف من المستقبل. يراهنون على حروب أهلية ناشبة سوف تستمر وأخرى يتعب متقاتلوها أو تأمر دولة عظمى فتهدأ أو تتوقف. يطلقون الأوصاف الجريئة على دول جريحة وعلى دول بحكومات جارحة، هذه دول « فاشلة» وهذه أشباه دول، وهذه دول «اصطناعية» يعنى اصطنعها ورسم حدودها الغرب، وكأن معايير وستفاليا توافرت لمعظم دول العالم ولم تتوافر لأمم الشرق الأوسط. نسمع عن «سايكس بيكو الذى «مات»، فالنظام الإقليمى العربى انفرط أو هو ينفرط، والدول التى «اصطنعها» الدبلوماسيان البريطانى والفرنسى فى عام 1916 على وشك الانفراط هى الاخرى. ما زال الاهتمام بقصة سايكس بيكو عند أوجه، المسئولين والأكاديميين وحتى الرأى العام، كلهم يسألون ويبحثون. ينقل جوجل عن إحصاءاته أنه تلقى حتى منتصف عام 2015 أكثر من 350.000 طلب بحث أو استفسار عن الدبلوماسيين سايكس وبيكو وخرائطهما.
***
نقرأ اجتهادات لمتخصصين وأخرى لهواة، كثير منها «اصطنع» بدوره مفاهيم أو استعادها من أدب العلاقات الدولية وتاريخ توازن القوى. نقرأ عن شرق أوسط، بعربه وكرده وفرسه وأتراكه، يعيش عصر«ما بعد الكولونيالية» أو «ما بعد الإمبريالية» أو «ما بعد رفض التبعية»، كما لو كان هذا العصر أو ذاك لم يمر على أمريكا اللاتينية وآسيا، مر علينا دون غيرنا. قرأنا أيضا، ونقرأ، عن أمم تعيش «عصر ما بعد السيادة»، فالسيادة بل والقانون الدولى بأسره يتحول تحت تأثير ظواهر عالمية عديدة مثل العولمة وعالمية الحقوق وحرية التجارة وسخونة المناخ. لكوننا الأضعف مؤسسيا وحضاريا، كما يشرحون، فنحن الأشد معاناة وعرضة للتدخل الأجنبى وفرض الوصاية والغزو العسكرى بذرائع مبتكرة.
***
ومن مفاهيم التى قيل إننا نحن الذين ابتدعناها أو تسببنا فى صنعها مفهوم «الارهاب»، الذى رغما عن خطورته وتبعاته المدمرة ما زال لا يحظى بتوافق عام على ما يعنيه فى الحقيقة. التصق بنا شئنا أم أبينا، ولن تقوم قائمة نظام اقليمى جديد فى المنطقة أو يعاد بعث النظام العربى ما لم تنزع دول المنطقة عن نفسها ما التصق بها من سمعة بعض منها هى منه بريئة والبعض الأكبر مذنب. كثير من أسبابه ما زالت قائمة وبعض ممارساته تجد أحيانا التبرير المناسب فى الدين والتقاليد ونوع الحكم وكذلك فى أساليب إدارة تناقضات المجتمعات. ما زالت بعض حكوماتنا العربية وحكومات فى دول الجوار تستخدم درجة أو أخرى من الغموض فى خطابها الدولى عن الإرهاب وفى سياساتها الداخلية تجاه تيارات المعارضة وفى التعامل مع الغضب الشعبى، كل أنواع الغضب وكل أنواع الرفض.
سوف تبقى أسئلة بعينها مثارة كلما جاءت سيرة إقامة نظام إقليمى أو صياغة نظام جديد، هل تخلصت قوانينكم وأساليب عملكم من نفوذ بل طغيان الغموض المحيط بالإرهاب؟ هل تحررتم من نفوذ وضغوط المواطنين الممولين لمنظمات ارهابية عمدا أو عن سوء فهم أو عن حسن نية؟ هل طهرتم فى جميع الدول العربية جهاز الحكم من عناصر أمنية وسياسية وظفت هى نفسها منظمات إرهابية أو مولتها أو دربتها وتحتفظ بها لزوم الحاجة الملحة؟ لن يسمح النظام الدولى، وأقصد القوى الفاعلة فيه، بقيام نظام جديد أو نظام محسن فى الشرق الأوسط، قبل أن يتلقى إجابات مناسبة على هذه الأسئلة. لا أجد داعيا لأن أؤكد هنا على حقيقة كانت دائما بالنسبة لى على الأقل واضحة، ويجب أن تكون واضحة، وهى أنه لن يقوم، ولم يقم، فى الشرق الأوسط أو فى غيره نظام إقليمى بدون رضاء أو توافق الدول العظمى عليه. يخطئ خطأ جسيما من يفكر ويخطط دون مراعاة هذا الشرط، وأعرف أن هناك من يحاول.
***
لا خلاف، فى رأيى، بين المهتمين بقضايا الإقليم العربى وجواره على أن الإقليم يعيش مرحلة خطيرة من مراحل تطوره، انحدارا أو صعودا. لا نختلف، رغم اتساع مروحة اختلافاتنا على أمور أخرى، على أن الإقليم يشهد حالة عدم استقرار سياسى لم يشهد مثيلا لها من قبل. نشبت فى الاقليم حروب أهلية كالحرب فى لبنان والحرب فى الجزائر والحرب فى الصومال وحروب مسلحة كالحرب الأولى فى اليمن، وحروب باردة كالحرب الباردة العربية وطرفاها السعودية ومصر، وحروب مع الجوار كالحرب العراقية الإيرانية، ولكن لم يحدث أن كان التوتر السياسى شاملا وعلى قدر من الحدة وعدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل كالحادث الآن، وبالدقة منذ ستة أعوام.
يشهد أيضا حالة غير عادية من «التعبئة الاجتماعية». الناس فى مواقع كثيرة معبأة بدرجات غير متفاوتة من الغضب أو مشحونة برغبات عارمة نحو التمرد. فى تركيا يخرجون إلى الشارع رافضين النزوع إلى الاستبداد أو منحازين إلى حقوق الأقليات، وفى العراق عين على الحرب الدائرة للتخلص من داعش وعين على ما بعد التخلص من داعش، والعينان لا تغفلان. وفى سوريا هل هو عود على بدء، أم عودات إلى مناطق تهدئة عما قليل تصير مناطق حكم ذاتى متصلة ببعضها أو تفصلها عن بعضها ثقافات وعادات وتفاهمات مختلفة. فلسطين ليست استثناء، فالمصير يشترك فى تقريره حكام كثيرون لا يؤمنون بحق تقرير المصير لشعوبهم، فما بالك بحق تقرير شعب آخر عتموا عليه طويلا حتى خرج من تحت أيديهم فى بلادهم جيل جديد لا يعرف عن فلسطين ما كنا نحن الأجيال الأقدم نعرف ونلقن ونحمى.
***
صعوبات عديدة تنتظر القادم من مشروعات بناء نظام إقليمى جديد فى الشرق الأوسط أو تحديث النظام القائم. الصعوبة الأولى فى مقدمة الصعوبات الأهم هى «فقر» القيادة أو عجزها. مازالت المنطقة عاجزة عن توفير قيادة من دولة كبيرة أو من مجموعة دول فى الإقليم تتحمل مسئولية صنع وتنفيذ مشروع تكامل اقتصادى ومشروع أمن اقليمى يجدد أمل شعوب المنطقة فى مصير أقل قساوة وخطرا. لنكن صرحاء وواضحين. بدون هذه القيادة الرصينة لن يفلح أى مشروع وإن توافرت النوايا الطيبة لدى كل أو معظم الأطراف. لا شك أيضا فى أن العقبات التى تمنع التوافق الإقليمى على هوية جامعة تشكل الصعوبة الثانية. نذكر الآن أياما ضاعت من فرص التقدم والانطلاق نحو المستقبل، أضعناها نجادل فى أيهما تكون الهوية الرئيسة لنظامنا «العربى» العروبة أم الإسلام. لم تكن الانتماءات الطائفية والعرفية تمثل عقبات فهذه انضمت حديثا لتزيد المصير غموضا وتعقيدا.
***
الصعوبة الثالثة، وكانت قائمة ولكن كامنة، هى ترسيم أو تصحيح الحدود سواء تلك التى خلفها سقوط الامبراطورية العثمانية أو التى أهملها وتغافل عنها حكام عهد ما بعد الاستعمار. أظن أن هذه الصعوبة لم تتفاقم فى العقود الماضية إلى الحد الذى يهدد استمرار النظام الإقليمى أو احدى منظماته الفرعية لأسباب مفهومة. من هذه الأسباب الدور الذى كانت تلعبه الهوية الكلية للمنطقة كأيديولوجية حينا وتبريرا حينا آخر وغطاء كذلك. من ناحية أخرى، أظن أن معظم النخب الحاكمة العربية كانت فى العقود المبكرة «راضية بما قسم لها» من الأرض والثروة والمكانة. لا شك أن مستوى الرضا تغير مع التغير الرهيب فى متطلبات الرفاهة الشخصية لأفراد النخب الحاكمة وفى الزيادة السكانية وارتفاع تكاليف الأمن والحماية الأجنبية. لست وحدى من يعتقد أن الحدود سوف تصبح مصدر قلق رئيسا يعطل فرص تحسين حال النظام الإقليمى أو إقامة كيان آخر محله.
***
الصعوبة الرابعة وليست الأقل شأنا هى استمرار الارتباك والتخبط فى وضع سياسات إقليمية وقطرية لوقف «الربيع العربى». أقولها مرة أخرى ولن أتردد فى قولها مرات ومرات، أقول إن الدول العربية لم تتعامل بكفاءة، ومهنية، مع ثورة الربيع العربى. أقول أيضا إن قليلا من الكوارث التى أصابت الشرق الأوسط خلال العقد الأخير وقعت بسبب ثورة الربيع العربى، بينما الكثير من الكوارث وقعت، وما زالت تقع، بسبب الأعمال غير الرشيدة التى قامت وتقوم بها حكومات كثيرة فى المنطقة لوقف ثورة تكاد تكون مستمرة. لا يمكن إنكار أنه تحققت، بهدوء وبدون الاعتراف من الحكومات بفضل ثورة الربيع فى صنعها، انجازات مثل تمكين المرأة والضغط من أجل المشاركة السياسية وسياسات الإصلاح الاقتصادى فى أكثر الدول العربية منها من تعرض مباشرة لهبوب ريح الربيع ومنها من اختار الإصلاح تهدئة واثباتا لحسن النوايا. ولكن فى المجمل كان العنف والقمع ومكافحة المطالبين بالحقوق المضاد الحيوى لروح وأهداف الربيع، ولا تزال حية ومرشحة للبقاء. تبقى هذه الصعوبة قائمة فى وجه أى ترتيبات إقليمية قادمة ما لم تجد صيغة مناسبة للتعامل مع الأفكار والمطالب المتواضعة التى طرحتها ثورات الربيع وهى الكرامة والعدل الاجتماعى والحريات واحترام الحقوق والمشاركة السياسية وتحسين الفجوات الاجتماعية.
***
الصعوبة الخامسة هى أن العالم، وأقصد النظام الدولى، دخل منذ فترة مرحلة انتقالية ولم يخرج منها بعد. غير واضح تماما إن كانت ستكون لأمريكا القيادة فى النظام الدولى والنفوذ الأقوى فى الشرق الأوسط. ففى ظل الوضع القائم قد تتمكن دولة إقليمية منفردة أو متواطئة مع دولة أجنبية لتفرض وضعا إقليميا جديدا، أو قد تدعو دولة إقليمية أخرى لمشاركتها قيادة الإقليم. يجب أن نخشى أيضا تداعيات الوضع القائم الذى يمكن أن يسمح لروسيا وأمريكا بالتعاون فى اقامة نظام إقليمى ينفذ رؤية مشتركة لمصير الشرق الأوسط، رؤية لا تراعى هويتنا.
***
جدير ألا نستهين بالحال الراهنة للنظام الإقليمى العربى وحال جامعة الدول العربية باعتبارها المؤسسة التى تمثله وتحمل فكرته وتحاول تحقيق أحلامه وأهدافه. لا أبالغ ولكنى أعتقد عن حق أن نجاحنا أو فشلنا فى إقامة نظام إقليمى يعتنق الهوية المناسبة ويضمن أمن الشعوب وحقوقها ورخاءها هو الإجابة عن سؤال قديم جديد طالما ردده أبناء هذه الأمة، نكون أو لا نكون؟