سها حشمت لم تعد سوريا وحدها المرشحة للتقسيم جغرافيا، بعدما تبنت روسيا التى دخلت فى سبتمبر الماضى المستنقع السورى فكرة الفيدرالية، التى تعتمد على تقسيم سوريا إلى ثلاث فيدراليات علوية وسنية وكردية. فالواقع أن تقسيم المنطقة أصبح خطراً حقيقياً بحيث لم يعد يقتصر الخطر على بلد واحد أو اثنين. وما حدث قبل خمسة أعوام، وعُرف باسم "الربيع العربي" خلق واقعا سياسيا جديدا فى المنطقة العربية. وقد كشفت سياقات الأحداث وتطوراتها عن عمق أزمة "الدولة".
فما يجمع هذه الأزمات اليوم هو صراع على هوية المنطقة ومستقبلها، وبالتالى على موقعها فى العالم ودورها فيه. إنه صراع بين أجنحة عالمية وإقليمية، لكل منها أجندته الخاصة وطموحاته المتباينة. وهو صراع تمتد معاركه من الأزمات الداخلية فى سوريا ولبنان وفلسطين إلى المعركة الطائفية فى العراق، والاحتقان السياسى فى مصر والحرب الأهلية فى ليبيا وصولاً إلى البرنامج النووى الإيرانى، الذى يحتل موقعاً مميزاً فى هذا الصراع. التقسيم: مشروع قديم فى ثوب جديد طرح مشروع تقسيم المنطقة لأول مرة فى العام 1983، حين وافق الكونجرس الأمريكى على مشروع "حدود الدم" Blood Borders، الذى طرحه المستشرق البريطانى برنارد لويس، ويهدف إلى تقسيم وتفتيت المنطقة العربية على أساس دينى ومذهبى وطائفي. وتحت وطأة أحداث 11 سبتمبر 2001، وتورط تنظيم القاعدة، أصبحت صورة العرب والمسلمين أكثر قتامة فى الغرب، وأصبحت ظاهرة "الإسلاموفوبيا" هى العنوان الأكثر بروزاً فى الذهنية الغربية، لذلك هرولت إدارة بوش الابن نحو ضرورة تغيير خارطة الشرق الأوسط، وطُرحت رؤى أمريكية عديدة باتجاه تقسيم المنطقة إلى دويلات. لكن الفشل الإستراتيجى فى العراق عام 2003 أضعف مشروع التغيير، وفرض التراجع عنه مؤقتاً. ونظرية "الفوضى الخلاقة" Creative Chaos، التى تعتمد أفكار التفكيك من النظريات التى تبنتها الإدارات الأمريكية تجاه المنطقة العربية، للدفاع عن مصالحها ومنع قيام الأنظمة والسياسات والأيديولوجيات التى تعرقل هذه المصالح، ومن دون التدخل العسكرى من جانبها. و يعد "مايكل ليدين" الباحث فى معهد "أمريكا إنتربرايز" أول من صاغ مفهوم هذه النظرية عام 2003، عندما وضع خطة جديدة للولايات المتحدة لإدارة أهم المناطق حساسية فى العالم، وهى الشرق الأوسط، بعد أن لاحظ ارتباك السياسة الأمريكية فيها. وارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة، وفقًا لإستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء. وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، هى أول مسئول أمريكى تسوق إعلاميا نظرية "الفوضى الخلاقة"، حين قالت فى تصريحات لها عام 2003 " إن الفوضى التى تفرزها عملية التحول الديمقراطى فى البداية، هى نوع من الفوضى الخلاقة التى قد تنتج فى النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة العربية حالياً". وفى مطلع عام 2005 كشفت "كونداليزا رايس" فى حديث مع "واشنطن بوست" الأمريكية عن نية الولاياتالمتحدة بنشر الديمقراطية بالعالم العربي، وتشكيل ما يعرف ب "الشرق الأوسط الجديد"، اعتماداً على مفهوم "الفوضى الخلاقة" الذى يبدو فى جوهره أقرب إلى نموذج "الإدارة بالأزمات"فى المجال الإستراتيجى مع اختلاف الآليات والوسائل، ولعل أبسط تعريف للفوضى الخلاقة هو أنها "حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث". وفى مرحلة لاحقة توالت مشاريع ومخططات تقسيم المنطقة، ففى العام 2006، قدم جو بايدن نائب الرئيس الأمريكى حاليا للكونجرس قانونا يقضى بتقسيم العراق، وجدد بايدن حديثه عن تقسيم العراق فى أغسطس الماضي، حين قال إن الولاياتالمتحدة ترى أن الحل الأفضل فى العراق، إقامة نظام فيدرالى مكون من ثلاثة أقاليم أولها فى الوسط للسنة، وآخر فى الجنوب للشيعة، وثالث فى الشمال للأكراد. والأرجح أن الحديث عن إعادة رسم خرائط المنطقة قديم قدم خرائط سايكس – بيكو التى تتم مئويتها الأولى فى العام 2018، تلك الاتفاقية التى مكنت عواصم الاستعمار باريس ولندن من تقاسم تركة الرجل العثمانى المريض عبر إنشاء كيانات اصطنعت، ربما عشوائياً أو وفق مصالح استعمارية خاصة، لكنها لا تزال مستمرة، حتى يومنا هذا. ووصل الحديث عن مخططات التقسيم مبلغاً غير مسبوق، فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة نيويورك تايمز فى سبتمبر 2013، صورة تكشف عن خريطة جديدة للمنطقة العربية تقضى بتقسيم السعودية والعراقوسوريا وليبيا إلى نحو 14 دويلة صغيرة وممزقة على أساس طائفى و مذهبي. عوامل تغذى التقسيم هناك زخم إعلامى يتنامى فى الوقت الراهن عن خرائط ومشاريع التقسيم. وجد هذا الزخم تربة خصبة وبيئة حاضنة لسببين أولهما: أن مرحلة الربيع العربى مثلت فرصة سانحة للغرب لإعادة تقسيم المنطقة بتغذية النزاعات المذهبية والعرقية. والواقع أن "التفنيت" أو "التفكك" أو "التقسيم" أصبح هو العنوان الأبرز فى المشهد العربي. ففيما تبدو بعض الدول العربية مرشحة للانقسام، لفقدان تكاملها الإقليمي، وفى الصدارة منها العراقوسوريا، تبدو دول أخرى قادرة على الحفاظ على وحدتها الإقليمية، وبينهما مجموعة ثالثة من الدول ستواصل الحفاظ على وحدتها، لكنها لا تبدو قادرة على مواصلة فرض سيطرتها على كامل ترابها الوطني، بما يسمح بظهور سلطات جزئية موازية داخل الدولة، كما هو الحال فى الصومال "حركة الشباب" وسوريا. وثمة عوامل تغذى مشاريع التفكك والتقسيم فى المنطقة، أولها صراعات الطوائف والقوميات فى المنطقة العربية، و انحسار احترام قيمة التنوع، وحق الاختلاف. فقد دخل العالم العربى عصر انفجار الهويات، بسبب ضعف قدرة غير قليلة من بلاده على تنظيم التنوع والاختلاف (الدينى والمذهبى والعرقى وغيرها) ليكونا عاملين من عوامل إغناء المجتمع، بدلا من أن يصبحا سببين من أسباب تفككه. والحال أن عوامل التفكك صارت أقوى من مقومات الاندماج وآليات الإدماج فى غير قليل من بلدان العالم العربي، وتجلى ذلك فى العراق بمنح إقليم كردستان حكم ذاتي، وإدارة قطاع معتبر من شئونه بعيداً عن سلطة الدولة المركزية، فضلا عن مساعى الحوثيين فى اليمن بعد الانقلاب على السلطة الشرعية. السودان كانت النموذج الميدانى الأكثر تعبيراً عن "التفتت"، فعقب انفصال الجنوب، تلوح فى الأفق بوادر انقسام فى دارفور وكردفان للانفصال عن الدولة الأم، خصوصا أن هوية السودان الذى يموج بالعرقيات واللغات ما زالت محل جدل. أما العامل الثانى فيعود إلى اشتداد الصراعات المزمنة فى المنطقة وتصاعد الجماعات الراديكالية التى تناهض الدولة الوطنية، وترفض الاعتراف بها إما لعدم تمام إيمانها أو رفضا لشرعية أنظمتها السياسية، وبالتالى تدعو لتغيير الواقع القائم وفق منظورها الأيديولوجي، ومنها "داعش" التى أعلنت دولة الخلافة فى الشام والعراق، وفى مصر إعلان ما أطلقت عليه أنصار بيت المقدس إمارة سيناء. ولم يكن ليقتصر الأمر على سوريا ومصر، فقد ذهبت الجماعات الجهادية بعيداً بمحاولة تأسيس إمارات إسلامية فى ليبيا والجزائر، ناهيك عن محاولات لا تخطئها عين فى تونس التى شهدت حربا ضروس مع الجماعات الجهادية فى "بن قردان" على الحدود الليبية. والأرجح أن الجماعات الجهادية تحولت إلى فاعل مهم فى إدارة العلاقات الدولية، بعد أن كانت الدولة الوطنية دون سواها هى الفاعل المعترف به فى العلاقات الدولية. وأصبحت الجماعات الجهادية فى المنطقة العربية رقماً صعباً بفضل ما تمتلكه من إمكانات تنظيمية ولوجستية وأسلحة متطورة. واليوم أضحت هذه الحركات بعد خمس سنوات من "الربيع العربي" أحد العناوين البارزة فى المنطقة، لا سيما أن القوى الكبرى، وفى الصدارة منها واشنطن باتت تعتمد على الفاعلين السياسيين من دون الدول فى منطقة الشرق الأوسط، بدلاً من الفاعلين التقليديين على مستوى الدول state actors تمهيداً لتوظيفها فى عملية تنفيذ مشاريع التقسيم والتفكيك للمنطقة. خلف ما سبق أدت التفاعلات والصراعات السياسية فى بعض دول المنطقة بجوار التغيرات الدولية إلى تكريس مشاريع التقسيم، وكان بارزاً هنا، إعلان الحزب الديمقراطى الكردى فى الشمال السورى، والمدعوم من واشنطن وموسكو مناطق الحكم الذاتى على الحدود السورية - التركية، وهو ما أثار غضب تركيا التى تسعى إلى إعاقة تقدم الفصائل الكردية المسلحة فى الشمال السورى، وتعتبر مشروعها السياسى على حدودها الجنوبية خطا أحمر من منظور أمنها القومى لا يمكن أن تسمح بتجاوزه. لذلك ربما يتعذر وضع حد لحالة التفتت المتزايد والآخذة فى الاتساع فى المنطقة، خصوصا فى سوريا التى تمثل الحلقة الأضعف فى مشاريع التقسيم، ولعل استحالة التعايش بين الهويات والأعراق السورية المتحاربة فيما بينها، ترشح سيناريو تقسيم سوريا، خصوصا مع فشل مفاوضات جنيف، وغياب نخبة سياسية أو جماعة وطنية، تتمتع بقدر كاف من الشرعية، تسمح لها بممارسة السلطة وتحقيق الاستقرار فى الكيانات المرشحة للحلول محل الدولة السورية الراهنة. فلا نظام الأسد ولا فصائل المعارضة التى يسيطر كل منها على جزء من التراب السوري، لديهما من الشرعية ما يكفى. السيناريو السورى يسهم إلى حد بعيد فى تحديد مصير دول الجوار، خصوصا العراق التى قطعت شوطاً معتبراً على صعيد التقسيم بفعل العديد من المعطيات، أبرزها الوضع القائم فى شمال العراق، حيث اكتملت مقومات بناء الدولة الكردية، وهناك بعض الجهود التى تبذلها بعض القيادات العراقية الشيعية المدعومة من إيران من أجل إقامة منطقة للحكم الذاتى فى الجنوب. ولم يكن الحال بأفضل فى ليبيا، حيث أعلن زعماء قبائل وسياسيين ليبيين فى مارس 2012، محافظة برقة "إقليما فدراليا اتحاديا" وإنشاؤهم مجلسا لإدارة شئون المنطقة برئاسة الشيخ أحمد الزبير السنوسي. الفكر الغربى وترسيخ التقسيم ثمة مؤشرات تؤكد أن مخطط التقسيم وإعادة رسم خرائط المنطقة، ما زال قائما فى الذهنية الفكرية الغربية لضمان الاستحواذ على ثروات المنطقة، خصوصا الثروة النفطية التى تمثل العمود الفقرى للصناعات الغربية، وتكشف عن ذلك الدراسات والأدبيات الفكرية والإعلامية لمراكز الأبحاث المرموقة، والمرتبطة بدوائر صناعة واتخاذ القرار، حيث باتت تعتمد فى تصنيفها للعالم العربى على معايير الهوية المذهبية والعرقية والطائفية. وفى هذا الإطار، تعمل عشرات الهيئات والجهات الغربية الرسمية وشبه الرسمية على تداول صيغة ممكنة لتفكيك ليبيا لوقف شبح الحرب الأهلية، وأيضا الدولة السورية، بذريعة وقف الحرب، أو مواجهة "داعش". فى المقابل فإن طيفا واسعا من الباحثين الغربيين مثل صموئيل هنتجتون وفرانسيس فوكوياما، وبرنارد لويس، يعتقدون بأهمية إعادة تفكيك المنطقة العربية الغارقة فى مستنقع الاضطرابات والحروب، ناهيك عن أنها ما زالت بعيدة عن النموذج الديمقراطى الغربي. صحيح أن التفكيك والتقسيم تبقى احتمالات، ربما يصعب تحقيقها الآن بالنظر إلى التعقيدات والعقبات التى تقف أمام تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، مقارنة بما كانت عليها الحال قبل مائة عام، إلا أن تعقيدات الصراع فى المنطقة ودخول فاعلين دوليين وفاعلين من غير الدول على خط أزمات المنطقة، يجعل فرص التقسيم غير بعيدة.