نبهت أزمة الغذاء، التى شهدها العالم فى 2007 2008، المستثمرين لأهمية التوجه بشكل أكبر للاستثمار الزراعى، خاصة مع ارتفاع العائد الاقتصادى من الزراعة بعد سنوات من تراجعه. حيث ارتفعت أسعار الغذاء العالمية لمستويات قياسية خلال النصف الأول من العام الماضى، نتيجة لتزايد الطلب العالمى على الغذاء بمعدل أكبر كثيرا من زيادة المعروض منها، خاصة مع تزايد استخدام الحاصلات الزراعية فى أغراض توليد الطاقة. وزاد إقبال المستثمرين على الاستثمار فى أراض زراعية خارج نطاق دولهم، لاعتبارات وفرة الأراضى والموارد المائية وجودة التربة، فاتجه المستثمرون لعدد من المناطق على رأسها أفريقيا جنوب الصحراء. وشهد العامان الماضيان إقبالا خليجيا على الاستثمار الزراعى فى الدول الأفريقية، وخاصة السودان، لاعتبارات القرب الجغرافى للدولة التى رأى العديد من الخبراء أن إمكاناتها غير المستغلة تجعل منها سلة للغذاء. ورغم تأخر مصر فى طرق أبواب الاستثمار فى أفريقيا مقارنة بالدول الخليجية، فقد شهدت الأيام الماضية تعزيزا لتواجد مجموعة القلعة للاستثمارات المالية، وهى أول مستثمر مصرى يحصل على حق انتفاع بمساحة شاسعة من الأراضى الزراعية، فى السودان، كما شهدت انضمام بنك استثمار بلتون، الذى قرر أن يدخل مجال الزراعة لأول مرة، فى السودان ومصر بالتوازى، رغم تراجع الأسعار العالمية للحاصلات الغذائية، وأوضاع الأزمة العالمية. القلعة تبدأ الزراعة فى مايو «سنبدأ فى الزراعة بالفعل بداية من الموسم القادم، فى شهر مايو»، يقول أحمد هيكل، رئيس مجلس إدارة مجموعة القلعة للاستثمارات المالية، والتى وسعت من مساحة الأراضى التى ستوجهها للاستثمار الزراعى فى السودان، مع إعلانها فى الأسبوع الماضى عن الحصول على 250 ألف فدان من الأراضى الخصبة فى ولاية الوحدة بجنوب السودان، بنظام حق الانتفاع الحر لمدة 25 عاما، وذلك من خلال شركة المحاصيل الزراعية السودانية المصرية المحدودة (سياك)، التابعة لها. وترتفع بذلك مساحة الأراضى الزراعية التى تستثمرها القلعة فى السودان إلى 500 ألف فدان. وكانت المجموعة قد حصلت فى العام الماضى على 250 ألف فدان، تقع بالقرب من مدينة كوستى جنوبالخرطوم، بنظام حق الانتفاع لمدة 99 عاما، وتتولى إدارتها شركة سابينا، التابعة للقلعة. إلا أنها لم تتسلمها بشكل رسمى سوى من ثلاثة أسابيع، كما قال أحمد هيكل، رئيس مجلس إدارة الشركة. ويقول هيكل إن الزراعة لم تبدأ فى أرض كوستى نتيجة تأخر تسليمها، إلا أن الشركة قامت بدراسات على التربة وأنواع المحاصيل المناسبة لها خلال الشهور الماضية، وتم تعيين فريق عمل أسترالى ذى خبرة بزراعة المساحات الواسعة من الأراضى. وتتوقع القلعة أول إنتاج من كل أراضيها فى كوستى والوحدة فى أكتوبر المقبل، وستركز على زراعة قصب السكر بشكل تجريبى على مساحات صغيرة، لتجربة أنواع مختلفة من القصب، للتوصل لأنسب الأنواع للتربة، والمساحة التى تحقق كفاءة أفضل لزراعتها، هناك قبل أن يتم تعميمها. ويقدر هيكل المرحلة التجريبية بثلاث سنوات. وتقوم خطة العلقة للاستثمار على إنشاء مصنع للسكر، للاستفادة من زراعات القصب، فى إطار توجهها الاستثمارى المبنى على التكامل بين المراحل الإنتاجية المختلفة، إلا أن رئيس مجلس إدارة المجموعة لا يتوقع أن يبدأ المصنع فى العمل قبل 6 7 سنوات، بعد أن يستقر إنتاجها من قصب السكر. تغير مناخ الاستثمار السودانى يوضح حازم بركات، العضو المنتدب لبنك استثمار بلتون فايننشيال، الذى يقتحم المجال الزراعى فى السودان ومصر للمرة الأولى، إن تغير مناخ الاستثمار فى السودان فى السنوات الأخيرة، قد شجع المستثمرين على القدوم إليها، وجعلها أكثر جاذبية. وقد وقعت بلتون مع شركة كنانة السودانية لإنتاج السكر اتفاق تعاون لتأسيس شركتين فى مصر والسودان تستهدفان الاستثمار الزراعى على مساحات شاسعة فى البلدين باستثمارات تصل إلى مليار دولار أمريكى، وتوقع بركات أن يبدأ العمل فيما بين ثلاثة وأربعة أشهر، بعد انتهاء إجراءات التأسيس. ورغم تراجع سعر المحاصيل الغذائية عن مستواه الاستثنائى الذى بلغه العام الماضى، لكن العالم سيظل يعانى من انخفاض العرض مقابل الطلب المرتفع على الغذاء، كما يرى بركات. ومن جهة أخرى فإن تزايد الاعتماد على الوقود الحيوى فى الدول الأوروبية، مع وجود تشريعات تشترط استخدام نسب محددة من هذا الوقود فى بعض المجالات فى أوروبا، يمثل مزيدا من الضغط على المعروض من الحاصلات الزراعية، ومن ثم يرفع أسعارها. وكانت أسعار الغذاء العالمية قد وصلت إلى مستويات قياسية خلال النصف الأول من العام الماضى، ورغم تراجعها النسبى فى الفترة الأخيرة فإنه من غير المتوقع أن تعود لمستوياتها السابقة قبل 2007، لأن زيادة الأسعار نتجت بالأساس عن ارتفاع الطلب العالمى على الغذاء، ولم تتراجع نتيجة لزيادة الإنتاج بما يكافئ هذا الطلب، وإنما نتيجة للأزمة الاقتصادية كما يرى نادر نورالدين، أستاذ الموارد الزراعية بجامعة القاهرة، حيث لجأ التجار إلى تقليص أرباحهم والبيع بأسعار أقل لتحقيق سيولة مالية تساعدهم فى مواجهة الأزمة، بينما مازال الإنتاج الزراعى أقل من الطلب على الغذاء، وهو ما يجعل زيادة الإنتاج ضرورة. «بدأنا بالشراكة مع كنانة (واحدة من أكبر الشركات المتكاملة لإنتاج السكر فى العالم) لأن لديها خبرة لأكثر من ثلاثين عاما فى زراعة المساحات الواسعة من الأراضى، بالاعتماد على الميكنة، وهو ما لا يتوافر لشركات أخرى فى المنطقة»، كما يقول بركات مشيرا إلى أن بلتون سوف تتعاون مع شركاء مصريين فى المراحل القادمة. ويتركز توجه بلتون على الاستثمار فى الغذاء «الطلب العالمى المرتفع على الغذاء كان دافعا أساسيا لنا لدخول هذا المجال، خاصة وأن هناك تغيرات فى سياسات دول المنطقة مؤثرة على الطلب على الغذاء، مثل قرار السعودية وقف زراعة القمح بحلول عام 2016»، كما يقول بركات، وإن لم يكن هناك ما يمنع من الدخول فى زراعة محاصيل تستخدم فى الوقود الحيوى مستقبلا. هل تستفيد مصر من هذه الاستثمارات؟ وتنبهت الحكومة المصرية، وهى مستورد صاف للغذاء، والأولى فى استيراد القمح فى العالم، إلى أهمية طرق سبل جديدة لسد احتياجاتها، فبدأت فى طرق أبواب بعض الدول الأفريقية مثل السودان وأوغندا وأثيوبيا لفتح أبواب التعاون الزراعى، وإتاحة الفرصة أمام القطاع الخاص المصرى للاستثمار فى هذه الدول. إلا أن نادر نورالدين لا يرى أن الاستثمارات الزراعية للقطاع الخاص فى هذه الدول ستلعب أى دور فى سد الفجوة الغذائية المصرية إلا إذا كان هناك تنسيق بين المستثمرين والحكومة حول زراعة كميات من المحاصيل التى تحتاج إليها مصر. «الحكومة بدأت تهتم بتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار الزراعى فى الخارج، لأنها أيضا تحتاج لتوفير محاصيل تفى باحتياجاتها»، تبعا لبركات، خاصة وأن هناك أنواعا تكون زراعتها فى الدول الأفريقية اقتصادية بدرجة أكبر. ولا تقوم الحكومة المصرية بالتنسيق مع المستثمرين فى الوقت الحالى حول المحاصيل التى تحتاجها مصر بحيث ترتب مع الشركات أولوية زراعتها بكميات معينة مقابل مزايا، «فالاستثمارات المصرية فى السودان مازالت فى بداية الطريق ولم تدخل مرحلة الإنتاج»، كما يقول بركات إلا أن «التنسيق سيأتى فى المرحلة القادمة، عندما يكون هناك إنتاج». وكانت الاستثمارات المصرية فى السودان قد شهدت زيادة كبيرة خلال السنوات الأخيرة حيث ارتفعت قيمتها من 6 ملايين دولار فى عام 2000 إلى 539.5 مليون فى 2007، مستثمرة فى 128 مشروعا، طبقا لبيانات وزارة الاستثمار السودانية. وتتركز معظم المشروعات المصرية فى القطاع الصناعى بنسبة 70%، ثم الخدمات 28%، بينما لم تتجاوز تلك الاستثمارات فى الزراعة 1.1%. وتمتلك السودان نحو 2.5 مليون فدان صالحة للزراعة، ومزودة بالمياه، إلا أنها تفتقد إلى العمالة الماهرة فى المجال الزراعى، وتعد الولاية الشمالية من أكثر الولايات جذبا للاستثمار، خاصة الخليجى. إلا أن العمالة غير المدربة فى السودان لا يبدو أنها تعوق المستثمرين، إذ يقول أحمد هيكل، إن الاعتماد فى زراعة الأرض سيكون بالأساس على «العمالة السودانية»، مع الخبرة الفنية الأسترالية. أما حازم بركات فيقول إن شركة كنانة التى دخلت بلتون فى شراكة معها، لديها خبرة فى هذا المجال، حيث تقوم بزراعة موقعين فى السودان، أحدهما تبلغ مساحته 150 ألف فدان، ويعمل فيه 2000 شخص يشملون القائمين بأعمال الزراعة والإداريين، ومتوقع أن يقلصوا عددهم إلى 1500 فى الفترة القادمة، «فزراعة المساحات الكبيرة تعتمد بدرجة أكبر على الميكنة». الاستثمار فرص ومخاطر تزايد الإقبال على الاستثمار الزراعى فى العالم وخاصة فى أفريقيا، لن يؤدى إلى تقليص الفجوة الغذائية، كما يرى نادر نورالدين، بل سيزيد منها على الأرجح، لأن كثيرا من الاستثمارات موجهة للوقود الحيوى وليس للغذاء، «فالهند وكوريا والصين وروسيا بالإضافة لبعض الدول الأوروبية، تقوم بزراعة نحو 25 مليون فدان فى 9 من دول حوض النيل، و15 دولة فى غرب أفريقيا و5 دول فى الجنوب، بحق الانتفاع لمدد تزيد على 99 عاما»، وتوجه معظم هذه الأراضى لأغراض غير غذائية. فى حين أنها تحرم أهل هذه البلاد، التى يعانى معظمها من نقص الغذاء، نتيجة لافتقاد الأدوات التكنولوجية اللازمة، من الاستفادة بالأراضى فى توفير الغذاء. وفى المقابل فإن قيمة عقود الانتفاع لا توازى قيمة الواردات الغذائية لهذه الدول.