فى أحد دهاليز شارع المرجوشى بحى الجمالية وبجوار أنقاض أحد البيوت القديمة، يقبع واحد من مستوقدات الفول الطاعنة فى السن والذى مازال يصارع من أجل البقاء بعد أن أتم عقده التاسع. علينا أن نعبر زقاقا صغيرا لكى نتمكن من الوصول إلى هذا المكان الذى يسعى لكى يتوارى عن أعين وزارتى الصحة والبيئة، وكذلك هيئة الآثار التى تعكف بدأب على تطوير المنطقة. يختبئ المستوقد القديم خلف رفيق العمر «الحمام البلدى» الذى طالما شاركه نفس الرخصة ومصدر الوقود وإن لم يقاسمه نفس المصير. فمازال للحمام حق الوجود أما المستوقد فإنه أصبح مهددا بالانقراض. هنا على مساحة 90 مترا، تراصت قدور الفول المعدنية. المستوقد العجوز يعمل الآن بثلث طاقته. فى عصره الذهبى كان يستوعب ما بين 30 و40 قدرة، أصبح اليوم لا يسع سوى 6 فقط. كل قدرة تحتفظ باسم صاحبها، بائع الفول الذى سيحملها على عربته ليجوب بها المنطقة. فمازال لهؤلاء بدورهم زبونهم القديم الذى مازال يستشعر المذاق الخاص للفول الذى تم تسويته على نار هادئة فى المستوقد. المعلم محمد، فى العقد الخامس من عمره، صاحب المستوقد يبدو وكأنه العامل الوحيد به. ورغم أن المستوقد أصبح «لا يأتى بهمه» لكنه لا يريد مطلقا أن يضع حدا لمهنة توارثها عن أجداده وآبائه واشتهرت بها عائلته فى حوارى الجمالية. لذا فقد تراه من خلال المستوقد مازال يدير عددا من المشروعات الصغيرة الأخرى مثل بيع الماشية، بالرغم من أنه رفع سعر طهى الإناء لأكثر من مرة ليصل إلى 15 جنيها للقدرة الواحدة فى حين لم يكن يتجاوز ذلك أيام ابيه فى الخمسينيات والستينيات العشرة صاغا. وأنت تدخل المستوقد يداهمك للوهلة الأولى شعور أنك تدخل فى رحم الماضى. عشرات من «البوابير الفتل» تزأر دون هوادة لتكسو الجدران البازلتية بلون رمادى، وسرداب أسود مازال يفصل بين الحمام والمستوقد. «سر الصنعة اليوم هو التحكم فى النار والمياه وذلك بعد أن يتم تغطية وش الفول بالمدشوش والعدس. وبعد السواء نلحق الوش الساخن بماء بارد أو مية بليلة حتى لا يحرق الفولة وهذه الرشة تخلى طعمها زى العجمية» هكذا يلخص محمد سرا من أسرار الصنعة التى كانت سبب شهرته. ربما كانت الطريقة التى يعمل بها مستوقد محمد حديثة نسبيا بعد إدخال البوابير والتى لا تحتاج لمدخنة. فمن قبل كانت عربات القمامة تأتى إلى المستوقد حيث تقوم الأحصنة بإنزال أطنان القمامة التى تم جمعها من حوارى وأزقة الجمالية. كان المستوقد به غرفة منقسمة إلى قسمين تبدو آثار حدودهما على الجدران الرمادية اللون. يشرح العم جمعة بائع الفول الذى اعتاد أن يسوى قدوره فى المستوقد. طريقة عمله: فى النصف العلوى من الحجرة كان مكان تصفية القمامة وإشعالها حتى تكتسب النيران لونا ذهبيا لامعا. فى حين كان الجزء الاسفل هو الجورة السفلية، وهى حفرة واسعة تدفن فيها القدور بعد تعبئتها. ثم تقوم سلاسل النار التى تتخلل الجورة بتسوية الفول من جميع الجوانب بينما تسوى النار التى تعلو الجورة الوجه العلوى للقدرة. يستطرد عم جمعة: «وبهذه الطريقة كانت الفولة تتسوى كويس ويكون طعمها مختلفا، ولكن هذه الطريقة بدأت فى الانقراض فى السبعينيات من القرن الماضى بشكل تدريجى. فى البداية طلبت الصحة أن نركب مداخن من أجل تفريغ العادم ولكن بعد كده اختفت هذه الطريقة من المستوقدات لأن الحكومة شايفة انها بتلوث البيئة». ومما زاد الأمر سوءا كما يرى عم جمعة هو أن الآثار أيضا وضعت قدميها فى المنطقة «أصبحنا بين فكى الأسد واختفى جزء كبير من حرفية الصنعة. ومع دخول البوابير الفتل، لم تعد الأوانى الفخارية ملكة المستوقد كما كان الأمر سابقا». ورغم ذلك مازالت القدور المعدنية تتوالى على المستوقد لتسويتها قبل موعد الإفطار أو السحور حيث يتربع الفول على موائد الأسر من الجمالية والنحاسين مرورا بالصاغة وحتى باب القاضى. مواعيد رمضان فى المستوقد تختلف بالطبع عن الأجندة فى الأيام العادية. فبينما يبدأ الدوام ليلا فى الأيام العادية، فى رمضان يبدأ العمل مع انطلاق أذان الظهر من مسجد السلطان قلاوون. يأخذنا عم جمعة من شارع المرجوشى إلى شارع المعز لدين الله، ليشير إلى أطلال مستوقد المقاصيص الذى كان يمتلكه والده منذ عام 1930 والذى طالما أعد قدور الفول لكل مطاعم الصاغة والنحاسين والخان. غرفة الوقود المتهالكة استقطع منها جزءا لكى يستضيف بعض فواعلية الحى الذين اعتادوا ارتياد المستوقد القديم ليحصلوا على بضعة أرغفة من فول جمعة. فهو مازال يستمد سمعته من سمعة المستوقد القديم التى حل محلها عربته المتهالكة. تقف العربة بجانب الجورة المردومة، وأمامها وقف جمعة يحضر طبق فول معتبر.. دقة.. ثوم وشطة وكمون..نصف ليمونة وزيت حار مع قليل من الطماطم بينما يستعيد ذكريات المستوقد: «كان لدينا شبكة واسعة من المطاعم التى كانت تتبارى فى تسوية الفول فى مستوقدنا مثل الزغبى والسعاتى والحلوجى والقماح وجرادة وأولاده». بل عرف مستوقد عم جمعة خدمة الديليفرى منذ أكثر من 50 عاما. يتذكر عم جمعة: «كنا نعمل فى المستوقد طول الليل وربما يغالبنا النوم فنترك العربة للحمار الذى يحفظ الطريق عن ظهر قلب يجوب المنطقة بينما نحن نيام ليسلم لكل مطعم قدرته». مازال عم جمعة يحتفظ بلغة المهنة مثل التشبيكة أى مجموعة القدور، الثغر أى غطاء القدر، البوكشة أى القدر، الجورة أى الحفرة، النشارة أى الوقود. لم تتغير فقط طريقة إعداد الفول بعد انقراض المستوقدات فى رأى عم جمعة بل أيضا اختلفت الفولة نفسها. فولة زمان لم تعد موجودة فى رأيه. فبينما كانت هناك أصناف متعددة من الفول مثل «الصعيدى» و«الجزايرى» و«البحيرى». اختفت نهائيا الفولة الجزايرى التى كانت تعد أفضل الأنواع بينما ارتفع سعر الفول الصعيدى جدا. ومع اختلاف الفول وانحسار المستوقد وطريقته القديمة، يتحسر عم جمعة على فول زمان أو كما يسميه بتلذذ: الفول العجمية.