شموس نيوز – خاص استتب الأمر تماما للباشا ساكن القلعة، كان قد تخلص نهائيا من رءوس المماليك بحيلته ذائعة الصيت، وصادهم كما يصيد الأرانب في البراري، حتى “أمين بك” الذي نط بحصانه من أسوار القلعة، وفر هاربا إلى الصحارى، لا بد وأن الشمس ستذيب جلده، أو ان الوحوش الضارية ستلتهمه حيا، أما بقية المماليك، وأما أعوانهم الذين يمدونهم بالعون والمدد والمؤازرة، فقد أذن الباشا لرجاله في أن كل من يقتل مملوكا، يمتلك قصره بما فيه من أحصنة وجوار ورياش، فانطلق خلصاؤه يعيثون في البلاد، ويقتلون في العباد، حتى أن كثيرا من بيوت المصريين لم تسلم من إيذائهم. جلس “محمد علي باشا” على أريكته، وبدأ يفكر في شأن الجيش، فبعد زوال المماليك، لا بد من جيش يؤسس به امبراطوريته التي يحلم بها، خطط بعصاه على الأرض المياسر والميامن، ورسم الثكنات، وأمن الحدود، ونام. سنوات طويلة مرت، حتى كان لمصر جيش حقيقي، ولأول مرة، من آلاف السنين، يصبح جيش مصر فيه جنود مصريون. أحيانا، كانت خزائن الدولة ينتابها بعض الارتباكات نتيجة الأحلام العريضة للباشا، ونتيجة المشاريع الضخمة في المديريات العديدة والثغور، تلك المشاريع التي تؤسس للدولة الحديثة، فتكثر النفقات، وتتعدد أوجه الصرف، وتبدو هذه الخزائن خاوية، وغير قادرة على الوفاء برواتب الجند. الجنود صبروا شهرا وشهرين، ومنوا أنفسهم بقرب الفرج شهرا وشهرين، وقاوموا تذمرهم شهرا وشهرين، بعد ذلك انفجروا، أفرغوا أجولة الرمال أمام الحصون، وأشعلوا المشاعل وساروا بها في اتجاه مكتب ناظر الجهادية، وصل الخبر من العيون الجوالة في الثكنات إلى القلعة، فانتفض الباشا، فهو أكثر من يعرف مغبة ما يحدث، وركب حصانه متجها إلى هذا التجمهر قبل أن يصير ثورة لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها. وصل في الموعد المضبوط، هو دائما يصل في الموعد المضبوط، فتأخير ساعة واحدة كفيل بقيام القيامة. لما رآه الجند هدأوا، فقد أدركوا أن أمرهم وصل للوالي شخصيا، وها هو، كعهده دائما، سيحل أكبر الإشكاليات، مهما بلغ مداها، لكنهم في الحقيقة لم يكونوا يعرفونه جيدا، كانوا يعرفون وجه القائد المحب لجنوده فقط، أما بقية وجوهه، فلم تكن تخطر لهم ببال. أغلق عليهم الأبواب، وأنزل بهم عقابا لم يكن أكثرهم تشاؤما يتوقعه، فقد أمر قواده أن يطلقوا النار فورا على رءوس الفتنة، وأصدر أوامر فورية بطرد حاملي المشاعل نهائيا من الجيش، وعزل أصحاب الرتب من الضباط وصف الضباط إلى الرتب الأدنى، وحبس بقية الجنود لمدد مختلفة، وقلل رواتب الجميع، تلك الرواتب التي لا يقبضون منها شيئا أساسا، ومنع نزول جميع الضباط والجنود في إجازاتهم الدوروية، حتى هؤلاء الذين لم يشتركوا في الهوجة، بل حتى هؤلاء الذين تصدوا لها، وركب حصانه بعد استتباب الأمر، وعاد إلى القلعة، جلس على أريكته، وأخذ أنفاسا من التمباك الألباني الفخيم، ثم مدد جسمه، ونام. لما امتلأت خزائن الدولة، عادت الرواتب مرة أخرى إلى انتظامها، أما المشاركون في الهوجة، فقد كانت رواتبهم منقوصة، وكأن العقاب الذي نالوه لم يكن كافيا. كان “محمد علي” باشا يتفقد أحوال جيشه، وبتابع تحصينات المواقع، عندما تسلل خلسة واحد من الجنود الذين شاركوا في الهوجة، كان في يده خنجر استطاع تخبئته في طيات ملابسه، ولما حانت اللحظة المناسبة، انقض على الباشا، ليطعنه، الطعنة لم تكن قاتلة، مجرد خدش صغير في يده اليسرى، فالباشا محارب قديم، يستطيع تفادي مثل هذه الطعنات المفاجئة. لما مثل في اليوم التالي بين يديه في القلعة، سأله الباشا: لماذا فعلت ذلك بوالي البلاد. كان كل من في المجلس موقنا بالقتل الذي يحيط بمصير هذا الجندي الآبق، حتى الجندي نفسه كان يعرف ذلك، لذا، ومادام الموت قادم لا محالة، فمن الذل أن تموت جبانا، رفع الجندي رأسه في كبرياء، وأجابه: أنتم يا مولاي تستحقون الموت، فقد دمرتم حياتي. كل من في القاعة كان ذاهلا، فما يحدث ضرب من المستحيل، وهذا الجندي قليل عليه الموت، فهو، بالإضافة لكل ما قام به، قليل الأدب، ولا يحسن مخاطبة الملوك. حامل أختام القلعة أمسك الجندي من ياقة بدلته، وجره ليجثو بين قدمي الوالي، لكن الوالي أشار له بأن يرجعه مكانه، ووقف صائحا: في كل مرة تثبت لي أيها الجندي أنك رجل شجاع. جميع من في القاعة أصابهم الذهول، لكم الوالي أكمل كلامه سائلا الجندي: ما هي رتبتك؟ كنت جاويشا رقيبا رئيسا لعشرين، وكان لي شريطان أحمران على صدري، وكان راتبي ثلاثين قرشا، هذا غير الجراية والملبوسات، ولكنكم عزلتموني، فصرت رئيس عشرة أومباشي عريف، بشريط أحمر على الصدر، وبراتب قدره عشرون قرشا غير الجراية وبدون ملبوسات. وقف الباشا، وطلب من الميرالاي الذي تبرق على صدره نجمة من الذهب الخالص، يحيطها هلال مرصع بالماس، أن يحضر له فورا نجمة من الفضة الخالصة، قام بتعليقها بنفسه على صدره، وأصدر أمره العسكري بصوته الحاد: يرقي من رئيس عشرة، إلى قول أغاسي، معاونا لليسار، براتب قدره ستون قرشا، وتصرف له جراية القول أغاسي كاملة، ويمنح الملبوسات مرتين في الشتاء ومثلهما في الصيف لا مرة واحدة، ويصرف له فورا راتب ستة أشهر كمكافأة منا على شجاعته. الجندي اغرورقت عيناه بالدموع، وركع على الأرض ممسكا بطرف جلباب الباشا ليقبله، فأنهضه الباشا، وسأله: ألك زوجة؟ من خلال دموعه أجابه: ليس لي بيت ليكون فيه زوجة يا مولاي. نظر الباشا لرئيس المئة الذي تزين صدره نجمة فضية يحيطها هلال فضي، والذي كان واقفا على يمينه، ففهم هذا نظرته، واصطحب الجندي إلى خارج القلعة. وهكذا، وجد الجندي نفسه في بيت كبير تحيط به حديقة فيها الرمان والعنب، وفيها المشمش والنارنج، وفيها التمر حنة والياسمين، رتبته الجديدة أتاحت له أن يصاهر متعهد الفول في القاهرة، ولما علم الوالي بأمر زواجه، أرسل له جاريتين، واحدة حبشية قوية البنيان لعروسه تزينها وتلبسها وتهيئها له إذا فارت دماؤه واهتاج جسده طالبا خبزه، وواحدة جركسية قليلة الجسد، بنهدين ريانين، لفراشه الخاص، إذا فتر جسمه عن خبزه الرسمي، وطلب خبزا ساخنا، ورقاه لرتبة صاغ قول أغاسي معاونا لليمين براتب قدره ألف ومائة قرش، وأرسل له الهلال الذهبي والنجمة الفضية ليعلقهما على صدره. طلب الوالي أن يمثل بين يديه في الحال سر العسكر الكبير، ليعرف منه تفاصيل الأورطة العائدة من البحر. سر العسكر الكبير هذا يمتليء صدره بالنياشين والأوسمة الذهبية والماسية والياقوتية، ليس بحسب الرتب التي ارتقاها رتبة رتبة فحسب، وإنما أيضا بحسب الانتصارات التي أحرزها شرقا وغربا في هضاب الآستانة، وفي جبال روسيا فيما وراء البحار، والذي لا يعرف أحد في الدنيا كلها، بمن فيهم الناظر العام، كم يبلغ راتبه، لأنه من الأسرار الخاصة بالدولة العلية، فقد كان حامل هذه الرتبة هو “إبراهيم باشا” ابن الوالي نفسه. بعد أن انتهيا من استعراض النتائج البحرية للأورطة الظافرة، سأل الوالي سر عسكره الكبير: هل تذكر يا باشا الجندي الذي حاول قتلي منذ سنوات؟ برقت عينا “إبراهيم باشا” مندهشا، وأجابه: نعم يا أبي، وقد أنعمتم عليه بالترقيات المتوالية حتى صار الآن قائمقام، نائبا عن الميرالاي، بهلال ذهبي، ونجمة مرصعة بالماس، وأصبح راتبه ثلاثة آلاف قرش. سأله الوالي وكأنه غير مهتم: وما هي أحواله الآن. أجاب سر العسكر الكبير باهتمام كبير: لقد أنجب أربعة ذكور وبنتين، وشارك حماه في تجارة الفول، وأصبحا يتحكمان في أسواق الأقاليم كلها، وله أطيان كثيرة في الوجه القبلي، وبساتين في قليوب، ولكنه يؤدي ما عليه من ضرائب في مواعيدها المعلومة. أما عمله في الجيش، فهو من أكفأ الضباط، وأكثرهم طاعة للأوامر، صبور ومثابر ويخطط للأمور، وأنا أوكل إليه كثيرا من المهام العسكرية الخاصة، وهو يؤديها بخزم وحسم، الباشا ختم على الأوراق العسكرية بخاتمه الرسمي، ووافق على مقترح تزويد حصة العلف لأحصنة المشاة، وتقليل عدد الجرايات للأنفار المستجدين، وطلب من سر عسكره الكبير ضرورة ضم الطرابيشي الذي في حي المغربلين على رأس سكة المرداني، لترزية العسكر، فقد عمل له الأسبوع الماضي طربوشا جميلا، وأصدر أمرا إضافيا بتقليل نزول العساكر في الإجازات الدورية، فتكرار النزول يحببهم أكثر في نسائهم، ويلين من عزمهم، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس على طبيعتهم العسكرية. قبل أن يغادر “إبراهيم باشا” القاعة، متجها إلى مخدعه الخاص، قال له الوالي، وهو يمسك بياي التمباك الألباني الفاخر: الجندي الذي حاول قتلي من سنوات، يكون أمامي بعد عصر الغد. أسند ظهره للأريكة، وخلع طربوشه الجميل، وابتدأ يشد التمباك. عصر الغد، هبط القائمقام النائب عن الميرالاي من على حصانه المطهم، متجها إلى باب القلعة، تبرق في صدره النجمة المرصعة بالماس، يحيط بها هلال من الذهب الخالص، وأسلم لجام جواده المطهم لخادمه، واتجه في هيئة الوجهاء إلى مجلس الوالي، يحيطه عن اليمين والشمال حارسان أسودان. قبل أن يؤدي للوالي التحية الواجبة، سأله الوالي بصوت جهوري: لماذا حاولت قتلنا منذ سنوات يا أيها القائمقام الخبيث؟ فوجيء القائمقام بسؤال الباشا غير المتوقع، فقد كان ينتظر أن يرقيه، أو يوكل له بواحدة من المهام الخطرة التي تعود أن يكلفه بها، ونظر إلى عيني الباشا، فوجدهما تطقان شررا، فتمالك نفسه، وركع أمام الأريكة الباشوية، وأجاب بذلة متناهية: ذلك أمر قديم يا مولاي ولي النعم، وقد تفضلتم بالعفو عني، بل وشملتموني برعايتكم الكريمة، حتى أصبحت على ما أنا عليه الآن. الباشا صرخ في وجهه: جريمتك أكبر من نعفو عنها أيها القائمقام، ولا بد من عقاب. أشار لحامل أختام القلعة، وأصدر أمره العسكري الذي يحمل رقما وتوقيتا، مع ضرورة تعميمه على جميع الجنود والضباط: يجرد القائمقام نائب الميرالاي من جميع الرتب والنياشين، ويقتل صباح الغد في ميدان الرماية رميا بالرصاص، ويكبس على بيته الآن ويفرغ كل ما فيه لينضاف إلى خزانة الدولة العلية، وتحضر زوجته وبنتاه لينضممن للجواري في قصرنا، وتنضم كل جواريه وسائر خدمه إلى خدمة بيوت القائمقام الذي سيتولى مكانه، أما الأحصنة والمواشي، فتوضع تحت تصرف كتيبته، ويلتحق أبناؤه الأربعة أنفارا بالجيش، ويقبض على حماه الذي احتكر معه تجارة الفول، ويجرد من كل أملاكه وأمواله، ويُشَهَّر به في الأسواق. قال هذا الكلام، وترك القاعة، ودخل لينام القيلولة. أكبر الظن أن القائمقام المقتول، حتى وهو في لحظاته الأخيرة، واقفا أمام البنادق الموصوبة إلى صدره، لم يكن يعرف ما الذي غير الباشا عليه هكذا، وربما فكر في أنه قد يكون ارتكب خطأ ما استوجب هذا العقاب، وأخذ يفكر في هذا الخطأ، متى ارتكبه؟، وأكبر الظن أن كل من عرف هذه الملابسات قد فكر بالتفكير نفسه. عندما صحا والي البلاد من نومه، وجلس على أريكته في مجلسه الدائم بالقلعة، اقترب منه حامل الأختام، وسأله: يا ولي النعم، ولمَ صبرتم عليه كل هذا الوقت؟ وقف الوالي، وتمشى قليلا أمام حامل الأختام، وكأنه كان في حاجة لمن يسأله هذا السؤال، وابتسم وهو يجيب: وقتها، كان جنديا صغيرا، وكان يعرف أن مصيره الموت، كان كالمنتحر، لا يهمه شيء، ولو كنت قتلته وقتها، فلن أشعر بالسعادة التي أشعر بها الآن، وهو لن يشعر بالخسران الذي يشعر به الآن. عاد إلى الأريكة، ووقَع على أوراق حامل الأختام تهيئة لختمها، وأضاف قبل أن يشرب التمباك الألباني الفاخر. حتى الانتقام، لا بد وأن يكون لذيذا.