كان محمد علي جبارا متجبرا، لكنه كان يعرف كيف يبني ويدبر أمور دولته.. وكان يردد دوما «إن مصر جنة الله في الأرض، ولو منحني الله ألف حياة غير حياتي هذه لبذلتها كي أمتلكها»، وأحاط محمد علي نفسه بحاشية تماثله في القسوة والبطش، لكن كان حريصا علي ألا يزيد ثراء أحد من حاشيته عن حد معلوم، فقد كان يؤكد «إن كثرة المال في أيدي الحاشية يشجعهم علي التمرد ويزيد من غضب الرعية»، ولهذا كان يسمح لهم بقدر من الفساد فإن زاد أطاح بهم. ويروي الجبرتي «فلما كانت غرة المحرم سنة ثماني وعشرين ومائتين وألف وصل من الجهة القبلية أن إبراهيم بك ابن الباشا قبض علي أحمد أفندي ابن حافظ أفندي الذي بيده دفاتر الرزق الإحباسية وشنقه، وأنه ضرب قاسم أفندي ابن أمين الدين كاتب الشهر علقة قوية، وكان قاسم أفندي خصيصا به ومقبولا منه علي الدوام كالصاحب والصديق وكل الباشا قد رتب له في السنة ثمانين كيسا، وشرط عليه المناصحة في كشف المستورات، وكل ما يكون فيه تحصيل الأموال، ودهش البعض من انقلاب الباشا علي أخلص رجاله، لكن الباشا الماكر تعمد أن يعاقبهما مدعيا أنه يحارب الظلم وقهر الفقراء وتخلص من وزر ما كان، ثم إن «إبراهيم بك صادر كل ما كانا قد جمعاه وأخذه لنفسه» وهكذا كسب محمد علي مرتين إيهام العامة بأنه يحارب الظلم ثم إنه كسب لنفسه مالا وفيرا. لكن الأمور تزداد سوءا والظلم والفقر يتزايدان، ونعود للجبرتي «وفي يوم رؤية هلال رمضان خرج المحتسب عثمان أغا الورداني علي رأس موكب مشايخ الحرف في موكب الرؤية، وأثبتوا رؤية الهلال» لكن المحتسب يذهب بالبشري ليجد نفسه معزولا، فالوالي استشعر غضبا يوشك أن يتصاعد عند العامة من ارتفاع الأسعار، والمحتسب هو المسئول عن الأسواق والأسعار ويصف الجبرتي الحال قائلا «وفيما يهل رمضان يجد الناس أن السمن والعسل والقمح قد شحت من الأسواق، وهي غير موجودة أصلا، ومن أرادها يبحث عنها سرا وبالسعر الزائد، وقد أرسل عثمان أغا للوالي أنه فعل كل ما يجب، فقد خزم أنوف الجزارين وعلق فيها قطعا من اللحم، وقطع آذان تجار السمن وحبس الكثيرين، بل إنه شنق منذ أيام تاجرا علي باب زويلة وعلق في عنقه ريال فرانسه كان قد زاده علي السعر»، وعلق محمد علي أسباب الظلم والفقر والتهاب الأسعار في عنق المحتسب وأطاح به، وأتي بمحتسب جديد هو مصطفي كاشف كرد واستدعاه أمام أعضاء المجلس وقال له بصوت مرتفع «إني أطلق يدك، فافعل ما تشاء في هؤلاء التجار. فرد كاشف كرد: أستطيع إن شاء الله يا مولاي ولكن أرجو أن تأذن لي بأن أبدأ بكبار التجار فأذن له ونزل المحتسب الجديد مباشرة من القلعة ليس إلي الأسواق، وإنما إلي بولاق حيث يقيم كبار رجال الدولة الذين كانوا يرسلون أتباعا لهم يترصدون الفلاحين الآتين إلي المحروسة بمحاصيلهم فيأخذونها منهم بالإكراه وبالأثمان الرخيصة، ثم يخبئونها في مخازنهم ليبيعوها، بأفحش الأسعار، وإلي مخازن كبار رجال الدولة توجه ليخرج منها قمحا وسمنا وعسلا وخيرات كثيرة وحملها رجاله ليطرحوها في الأسواق بالسعر المفروض، وفي بادئ الأمر تحداه الكبار فأمروا بإغلاق الحوانيت وأوقفوا البيع والشراء، فعاد المحتسب برجاله إلي بولاق وهاجم حاصل أحد كبار العسكر وأخرج منه ثلاثمائة وخمسين معونا وحضر كبير العسكر في حشد من جنوده ولم يعبأ بهم كاشف كرد بل وبخه بصوت عال أمام جنوده قائلا «أنتم رجال دولة ولكم رواتب وعلائق ولحوم وسمن وخلافه، فهل يجوز أن تحتكروا أيضا أقوات الناس وتبيعونها بالسعر الزائد.. ويقول الجبرتي «فكان أن تراجع الناس كبارا وصغارا علي احتكارهم للسلع وعن فسادهم، ولما رأي أصحاب الحوانيت الجد وعدم الإهمال وعدم الموالسة فتح كل منهم حانوته وأظهروا مخبوءاتهم وملأوا السدريات والطسوت من السمن والجبن وخلافه وكان التاجر يقول لزميله لقد فعلها المحتسب مع الكبار فهل يتركنا نحن». ومع ذلك يبقي كبار رجال الدولة علي طمعهم، فما أن هدأ المحتسب قليلا عن مهاجمة الحواصل والمخازن حتي صاح الجبرتي «ووقعت في شهر ذي القعدة شحة في الصابون وانعدم وجوده، فقد زاد التجار في وكالة الصابون ثمنه زيادة فاحشة وكلما أمر الكتخدا بتحديد سعر للصابون زادوا عليه وادعوا الخسران وازدادوا في التشكي فحاسبهم وزادهم خمسة أنصاف عن كل رطل وحلف ألا يزيد عن ذلك، ثم أرسل شخصا من طرفه ليباشر بنفسه البيع وعدم الزيادة، لكن الكبار أرسلوا عساكرهم وأتباعهم ليحاصروا خان الصابون ويشتروا كل ما يباع بالسعر المقرر، ولا يتمكن غيرهم من أهل البلد من أخذ شيء ثم يخرج أتباع الكبار فيبيعون الرطل بقرشين وقد اشتروه بقرش» وكان الغضب المصري يتخذ لنفسه سبيلا للشكوي أمام الوالي الباطش.. وقد كان، ففي ذات يوم استدعي الباشا أحد كبار المشايخ فصعد إليه في القلعة وقد غطي وجهه، وسأله الباشا لماذا فقال لي ثلاثة أيام لم أغسل وجهي فلم أجد صابونا، فثار محمد علي واستدعي المحتسب وثار في وجهه.. ورد المحتسب يا مولاي امنع الكبار من الإتجار والاحتكار تنخفض الأسعار وقد كان. فهل يستطيع د. مرسي أن يمنع كبار تجار جماعته من الإتجار والاحتكار؟