لم يكن محمد علي باشا مصرياً بأي حال من الأحوال.. ولم يكن له صلة بمصر حتي أثناء الحملة الفرنسية بقيادة نابليون.. إنما هو جندي ألباني جاء إلي مصر مع كتيبة ألبانية تم إيفادها مع الجيش العثماني عام 1801 إلي مصر لانتزاعها من يد الفرنسيين. كانت صورة مصر في هذه الفترة التي أعقبت جلاء الفرنسيين هي أسوأ فترة مرت بالشعب المصري فقد عاش في كرب وهلع وفوضي سواء في الريف أو المدن.. كانت هناك عدة قوي تتصارع لكي تنفرد بحكم مصر واستنزاف شعبها. كان هناك الأتراك العثمانيون الذين عادوا لاحتلال البلاد بجيوشهم.. والقوي الثانية كانت المماليك الذين اعتبروا أنفسهم مُلَّاك البلاد وعادوا إليها لبسط نفوذهم وإرسال الجزية المعتادة إلي الأتراك.. وإلي جوارهما كان الأسطول البريطاني مرابطاً في الإسكندرية.. وبعض القوات البريطانية تعسكر في القاهرة. في الوقت نفسه ظهرت علي مسرح الحياة السياسية لأول مرة قوي من الشعب المصري.. يبحثون عن منقذ لمصر من بين مخالب المتصارعين علي الفوز بحكم مصر والاستيلاء علي خيراتها ولم تجد هذه القوي إلا هذا الجندي الألباني محمد علي باشا الذي استطاع استمالة الشعب إلي جانبه وإحداث الوقيعة بين الجنود ووالي مصر المعين من قبل تركيا خسرو باشا حيث أوعز إليهم بضرورة مطالبته برواتبهم المتأخرة.. وقاموا بمهاجمة القلعة واحتلالها وحرق مقره في الأزبكية.. والذي هرب إلي دمياط. واستطاع محمد علي بكل ألوان الحيل والمكر والدهاء أن يحصل علي تأييد الشعب له والمطالبة بتعيينه حاكماً للبلاد. وفي عام 1811 استتب الأمر له.. فقام بإبادة المماليك من خلال مذبحة القلعة الشهيرة.. وبعدها تنكر للشعب المصري وسقاه العذاب من خلال استبداده وجبروته.. وإن كان هناك من يؤيده في تصرفاته الحازمة علي أساس أنها كانت ضرورية لاستقرار البلاد واستتباب الأمن الذي فقده والنهوض بمصر وبأهل مصر وفي هذا يقول عبدالرحمن الرافعي لا يستطيع أحد أن ينكر فضل محمد علي والمزايا التي عادت علي مصر من عبقريته وجهوده ومواهبه. وهناك أيضا من لعن محمد علي ووصفه بصفات صارمة رغم ضخامة المشروعات التي نفذها. وفي مقال نشر بمجلة المنار عام 1902 ونقله أحمد حسين في موسوعته عن تاريخ مصر.. "قال الشيخ محمد عبده الذي حمل عليه بشده" من الذي صنع محمد علي؟.. لم يستطع أن يحيا بل استطاع أن يموت واتخذ من الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهالي حتي فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة.. رفع الأسافل وأعلاهم في البلاد والقري حتي انحط الكرام وساد اللئام. ومضت هذه المقالة في النقد اللاذع والتجريح المؤلم لتصرفات محمد علي. ورغم كل ما قاله التاريخ عن محمد علي باشا سواء كان مدحاً أو قدحاً إلا أن الفساد استمر في عصره.. رغم كل المحاولات التي بذلها لمحاربته والقضاء عليه.. وكان محمد علي يتبع أساليب في غاية الغرابة لكي يمنع الفساد الذي استشري بين الموظفين وغيرهم في مختلف القطاعات المالية والإدارية.. بها وبين المزارعين والتجار واعتبر الوالي أن من لا يطع الأوامر فهو فاسد وينطبق عليه قواعد العقاب. تحديد مواعيد العمل وقد لفت نظر الوالي عدم وجود مواعيد ثابتة للعمل في الجهاز الإداري وخاصة الديوان العام العربي والتركي وأن العاملين يذهبون إلي أعمالهم تبعاً لمزاجهم ولا يحضرون في مواعيد محددة.. ولهذا صدر عن ديوان المعاونة التابع للوالي في أكتوبر 1827 لائحة نظمت حضور الموظفين من نظار ورؤساء وكتباً بالديوان الخديوي عربي وتركي بحيث يتواجدون في مقار عملهم بعد شروق الشمس بساعة واحدة وفي فصل الصيف تكون المواعيد بعد الشروق بساعتين. ونصت اللائحة الزام الموظف الحصول علي إذن مباشر من رئيسه المباشر في حالة رغبته مغادرة العمل.. وعدم الحصول علي هذا الإذن يوقع عليه العقاب: وهناك أشكال وألوان من الجزاءات التي توقع علي الموظفين كل حسب المخالفة التي ارتكبها أو الجريمة التي قام بها. كذلك لاحظ الباشا أن مشايخ القري يتخلون عن المهام المطلوبة تاركين قراهم بدون مبرر فأصدر تعليماته بمنع هؤلاء الشيوخ من دخول القاهرة دون الحصول علي إذن كتابي من نُظّار الأقاليم. عقوبات الوالي والحقيقة أن محمد علي لم يرحم أحداً من توقيع العقوبة عليه عند ارتكابه أي مخالفة أو جريمة مهما علا مركزه فمثلاً كان يخصم مرتب 12 شهراً من كبار الموظفين ويتدرج الخصم نقصاً مع تدرج الوظيفة حتي يصل إلي خصم مرتب شهرين لمن كانت رتبته "الميرالاي". ويري رزق نوي في كتابه "الفساد في عصر محمد علي" أن العقوبة المادية كانت تعتبر أسلوباً عقابياً لدفع الموظفين إلي الاهتمام والتدقيق في أعمالهم وصدرت في عام 1835 أي في أواخر عصر محمد علي لائحة خاصة بحقوق وواجبات المهندسين وجاء فيها.. إنه إذا تبين أن أحد المهندسين رسم خريطة بها عيوب.. يستخدم شهراً من غير مرتب.. وجاء أيضا في قانون السياستنامة أنه إذا أخل الموظف بواجباته فإنه يعمل بدون مرتب فترات من خمسة عشر يوماً إلي ثلاثة أشهر إذا تدخل في اختصاصات غيره من الموظفين وأساء معاملتهم أو أتلف الأدوات والآلات أو خالف اللوائح والأداء والقوانين. يوقع عليه.. العقوبة المادية بدون استثناء حتي علي النخبة الحاكمة من كبار الموظفين والذوات. ومن غير عقوبات الخصم من المرتب كانت هناك عقوبة أخري هي عقوبة الحبس الإداري حيث كان في بعض الأحوال يتم حبس الموظف المذنب في مكان عمله لمدة تختلف من حالة لأخري تبعاً لجسامة الذنب وكانت المدة تتراوح بين يوم واحد إلي نحو شهر أو أكثر ومن هذه الوقائع.. واقعة حبس بعض العاملين في ديوان المدارس الذين صدرت منهم أخطاء في التسجيل في كشف المواشي وتقرر حبس كل منهم 24 ساعة بمكان عمله أي في حظيرة المواشي.. مع قطع الماهية عن يوم واحد. وكذلك تقرر حبس باشكاتب المطبعة ثلاثة أيام بمكان عمله بدون أجر وحبس كاتب قيد القادر بقلم المهمات ليوم واحد بدون ماهية بسبب تأخر إرسال الورق من ديوان المدارس. ولم يكتف الباشا بهذه العقوبات الإدارية بل قرر تنفيذ عقوبات أخري مدنية وقد تضمنت اللوائح عقوبة الضرب في حالات السرقة والرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ وكان الضرب يستخدم كوسيلة لنزع الاعترافات من الموظفين عن التجاوزات التي ارتكبوها ويرفضون الاعتراف بها. وكانت عقوبة الضرب تصدر من خلال محاكمة فقد تقرر ضرب كاتب شونة "صدور غلال" في قضية رشوة اتهم فيها.. بالجلد مائة وخمسين جلدة وضرب أمين الشونة 40 جلدة وبصفة عامة كان العقاب البدني ينفذ بالعصا وبالسوط "الكرباج". وكانت عقوبة الجلد أو الضرب بالسوط تتم في قضايا الاختلاس وكلما زادت القيمة المختلسة زادت عدد الضربات. ويروي أن أحد الأشخاص اختلس مبلغ خمسمائة قرش فحكم عليه بالجلد 500 ضربة بواقع سوط عن كل قرش .. ويجوز في أحوال أخري نفي الموظف أو عزله نهائياً عن العمل بعد تنفيذ عقوبة الضرب.. في الوقت نفسه فإن تنفيذ العقوبة كان يقوم به المدير الإداري حتي يتسم نظام التأديب بالطابع الإداري وليس بالأسلوب الأمني. ويقول نوبار باشا رئيس وزراء مصر في عهد الخديو إسماعيل والذي عمل في معية محمد علي وولده إبراهيم باشا.. أن الوالي الكبير كان دائم القيام بنفسه بجولات تفتيشية وفي إحدي هذه الجولات في دائرة إقليم البحيرة عقد الوالي جلسة مع شيوخ المنطقة ودار الحديث عن المحاصيل والتجهيزات اللازمة للزراعة ونظر الباشا فلاحاً له منظر مساحة شاسعة من الأرض الخلاء فقال لهم.. يبدو لي أن مساحة هذه الأرض الخلاء تصل إلي 500 فدان وأعتقد أنه يجب زراعتها أرزاً ومساحة 500 فدان في زمام مثل زمامكم أمر ليس بكثير.. ألا تشاركونني هذا التفكير.. أسرع الشيوخ بالرد بدون تردد بالتأكيد يا سيدنا.. يمكن زراعتها بالأرز ونحن علي استعداد لذلك وقال محمد علي إذن هل يمكنكم زراعتها قالوا نعم نحن قادرون.. رد الباشا كم تريدون من الوقت لكي أحضر مرة ثانية وأري الزراعة وقد غطت هذه الأرض.. قالوا ستة أشهر يا أفندينا. وانصرف محمد علي.. ولكن الشيوخ ناموا في العسل اعتقاداً منهم بأن الوالي لن يحضر كما وعد.. خصوصاً وقد تبين لهم أن مساحة 500 "فدان" هي مساحة كبيرة لا تكفي لإعدادها وزراعتها ستة أشهر وبالتالي لم يبذروا فيها بذرة واحدة ولم يضعوا فيها فأساً واحدة. ولكن بعد مرور ستة أشهر عاد إليهم محمد علي فوجد الأرض بوراً كما هي وأن الشيوخ لم يفعلوا شيئاً مما وعدوا به وأمر بمدهم علي أقدامهم وتم عقابهم بضربهم بما عرف باسم "الفلقة" ولم يكن عقاب محمد علي لهم لعدم زراعتهم فقط ولكن لأنهم وعدوا وأخلفوا الوعد وكان يجب عليهم أن يذكروا للباشا صراحة بأن المدة التي حددوها للزراعة لم تكن كافية. جنازة المستشار الخاص ويروي نوبار باشا حكاية أخري عن وفاة "بوعوض بك" المستشار المالي لمحمد علي وهو في نفس الوقت سكرتيره والمترجم الخاص له.. قال: "عندما مات بوعوض بك تم تشييع جنازته بالإسكندرية ولم يشارك فيها إلا بعض الأهالي من سكان الإسكندرية وأيضا بعض الأجانب.. ولم يشارك فيها لا محافظ الإسكندرية ولا أي من قادة الجيش.. وبعد ثلاثة أيام.. وهي الفترة التي تستغرقها إرسال الخطابات.. وصل أمر من محمد علي إلي قائد قادته في الإسكندرية جاء فيه "إلي نجلي المبجل جداً.. إلي المحظوظ جداً اللواء عثمان باشا.. إنك حمار.. وإنك غبي.. كيف لا تصطحب أنت والقوات التي تحت امرتك الرجل الذي أخلص لك وقام بتربيتك إلي مثواه الأخير.. عندما يصلك هذا الأمر.. توجه في الحال وكل الضباط في حامية الإسكندرية إلي كنيسة الأرمن وقم بإخراج جثمان بوعوض بك ودفنه مرة أخري في جنازة عسكرية وتشريفة وأحذرك أن تعصي الأوامر.. وبالفعل أقيم قداس مهيب ولكن بدون استخراج الرفات". كان محمد علي باشا يعتبر كل من يخالف رأيه فاسداً.. وقد حدث أن أصدر أمراً إلي كبير سياس الخيل أن يرسل فرساً هدية إلي أحد أمناء السر في قصره وكان مسيحياً.. ثم اكتشف محمد علي بعد ذلك بأن الفرس به عيب.. فنادي رئيس السياس وقال له كيف اخترت فرساً معيباً لتعطه "لفلان" المهدي إليه بينما أمرتك أن تعطيه فرساً جيداً.. فرد عليه كبير السياس "ولكن الذي اخترته يا أفندينا حسن جدا بالنسبة لكافر" وأمر بجلده وضربه علي قدميه "بالفلقة". ويروي كذلك أنه حدث قيام "مركبي" مسلم بقتل شاب مسيحي ثم ألقي جثته في الماء.. وعندما تم اكتشاف القاتل وقبض عليه وقدم إلي المحاكمة التي حكم عليه بالإعدام شنقاً.. وتم نصب مشنقة بالقرب من عمود بطليموس "عمود السواري" وحدث أن انزعج بعض الناس من حكم الإعدام وفي اليوم المحدد لتنفيذ الحكم سارت جموع من هؤلاء المعترضين خلف المتهم وكلهم يرددون كيف يشنق مسلم لأنه قتل مسيحياً لقد قيل أن حياة مسلم تساوي حياة عشرة من المسيحيين!! وبالتالي إذا تم شنق هذا المسلم فإن علينا أن نشنق تسعة آخرين!! ولكن بمجرد أن أعلن رئيس البوليس "طاهر بك" وكان أعرج.. أن الوالي أمر بشنق كل من تسول له نفسه الاعتراض علي شنق هذا المجرم وأنه سيقوم بنفسه بالقبض علي أي معترض لينفذ فيه أمر أفندينا وشنقه وفي الحال انصرف كل المعترضين. هكذا ظهر محمد علي باشا في مصر.. في ظل ظروف بالغة التعاسة للشعب المصري.. عقب فوضي وفساد في العصور المختلفة.. كانت مصر فيها نهباً لكل من تولي حكمها.. جاء محمد علي بعد صراع السلطة بين المماليك.. وفي أعقاب احتلال نابليون بونابرت لمصر وفرض كل أنواع الذل والاستبداد.. وفي ظل كل هذه الفوضي والفساد والصراعات بين القوي المختلفة واستطاع خلال سنوات قليلة أن يستميل الشعب المصري إلي جواره حتي هب الناس يطالبون بتنصيبه والياً عليهم.. صحيح أنه قام بصنع مصر الحديثة وتنفيذ مشروعات ضخمة لخدمة الشعب المصري.. رغم كل ما قيل عن جبروته وسطوته.. ولكن يبدو أن مصر لم يكن يصلح معها إلا فرض السيطرة الكاملة ومكافحة الفساد بكل أشكاله. وكانت مشكلة الشعب الكبري من وراء حكم محمد علي.. هو فرض الضرائب.. التي لم يكن لها قانون ينظمها أو لائحة تحدد المطلوب.. كانت الضرائب تفرض حسب الطلب وهذا هو الموضوع القادم.