بوابة شموس نيوز – خاص (وجهة نظر ) إن ظاهرة الغموض هي أحد الخصائص المميزة للتجربة الشعرية منذ القديم وقد تناول النقاد القدماء أمثال الآمدي والجرجاني هذه الظاهرة في كثير من الدراسات النقدية والموازنات الشعرية. وحيث أن الغموض كظاهرة شملت بعض أشعار القدماء فإن أبا تمام كان قد أثار ضجة كبيرة حول طريقته في تجديد الشعر العربي من حيث صياغة تراكيبه ومجازاته ودقة معانيه وبناء صوره الشعرية التي أثار بها دهشة النقاد نظرا لغرابتها وغموضها الشيء الذي لم يتعود الناس عليه في تاريخ الأدب العربي .. وقد اعتبر الآمدي في كتابه الموازنة بين الطائيين أن أبا تمام خرج حتى عن عمود الشعر العربي وأن شعره (" لا يشبه شعر الأوائل ولا على طريقتهم " )وقد ساعدته ثقافته الواسعة في الغوص على المعاني الغامضة معتمدا في ذلك على الصناعة البديعية الشيء الذي ترتب عنه التعقيد اللفظي والتعقيد المعنوي مما جعل الناس يستشعرون الغموض والابهام في شعره ومن أغرب وأبعد معانيه : وَلِهَتْ فأَظْلَمَ كلُّ شَيءٍ دُونَها… وأنارَ مِنها كلُّ شَيءٍ مَظْلِمِ فالوله والظلمة والإضاءة ألفاظ ظاهرة المعنى، ولكن البيت بجملته يحتاج فهمه إلى استنباط، ومراده : أنها ولهت فأظلم ما بينه وبينها من جزعه لولهها، وظهر له ما خفي عنه من حبها له.. ولما سئل أبو تمام لم تقول ما لا يفهم ؟ أجاب ولم لا تفهم ما يقال ؟ وقد بلغ أبو تمام من الإجادة والروعة المبتكرة ما لم يبلغه شاعر آخر في زمانه.. ويعتبر الغموض من أهم ما يميز القصيدة المعاصرة التي تعبر عن ذاتية الإنسان المعاصر بل عن معاناته وإغترابه، وعن واقع كله أزمات وتناقضات، وويلات وحروب انعكست بالضرورة على تجربته الشعرية. يقول الدكتور عز الين اسماعيل في كتابه ( الشعر العربي المعاصر…) " إن الشعر الجديد يتسم في معظمه بخاصة في أروع نماذجه بالغموض " أي أن جمالية القصيدة المعاصرة مرتبطة بالغموض وربما ارتبط الغموض بطبيعة الشعر ذاتها منذ القدم وأن هذا الشعر الجديد قد حاول التخلص من كل صفة ليست شعرية في محاولته الاقتراب من طبيعة الشعر الأصلية. كما أن الشاعر في حاجة إلى عمق التجربة أكثر من حاجته إلى التفصيل وكلما قَلّتْ تفصيلات. الحالة الشعرية الا وزاد تأثيرها المباشر. ويرى د.عزالدين اسماعيل:أن (كثرة التفصيلات لا تترك عملاً للإيحاء الذي تتمتع به لغة الشعر والذي يعتمد على الصور الفنية كالاستعارة وغيرها. ولذا فإن التعبير المباشر ليس تعبيراً شعرياً، وحياة الألفاظ الطويلة وما تبلور فيها من مأثور أدبي وتاريخي وأسطوري، كل ذلك يكسبها تلك المقدرة الرمزية الإيحائية، والغموض أو التعقيد مما يزيد عظمة اللفظ أو الرمز).. وعليه فان توظيف المجاز انطلاقا من منطق الخيال هو أساس الغموض وهكذا يمكن أن تنسب أحاسيس ومشاعر الى كائنات غير حية في الطبيعة مثلا حين القول( بكت السماء..صلبت الشجرة خصرها ..لملمت الشمس جدائلها…الخ ) وقصيدة النثر الحداثية تحبل بالكثير من هذه الصور الخيالية الانزياحية.. الانزياح في الشعر: ………………….. الانزياح في الشِّعْرَ هو البعد عن مطابقة الكلام للواقع باستخدام عبارات متعددة ومختلفة عن المألوف منها الرمز والتشبيه والاستعارة والخيال، يتمثل بتغيرات لغوية فنية على مستوى النص الشعري إلا أنها تضفي عليه مسحة من الإبداع والجمال اللغوي.. حسب قدرة الشاعر على استعمال الاستعارة والتشبيه والخيال، فهو في الواقع تفوق اللغة على اللغة لتدخل في إطار عدول لغوي متمرد على اللغة الَّتِي انزاح عنها الشاعر ، وهو ما عبرعنه في التراث الأدبي (بالعدول )بدلا من (الانزياح )الذي يعتبر ضرباً من التسهيل لإثراء الكلام في مستواه الصرفي والتركيبي بوضع عبارات غير مألوفة بدلاً من العبارات المألوفة. وبذلك يعتبر العدول خرق نظام اللغة ونظام الدلالة لخلق لغة داخل لغة وهو الانزياح نفسه.. وتعتبر قصيدة أنشودة المطر للشاعر بدر شاكر السياب من أجمل القصائد التي وظف فيها الرمز بشكل مكثف وبها كثافة من الصور الشعرية الفنية المليئة بالايحاءات الإنزياحية المتعددة الأشكال والمليئة بالغموض الفني البعيد عن " الإيغال في التعقيد "وان كانت الخلفية للنص سياسية ونفسية واجتماعية في نفس الوقت .. يقول السياب في مدخل قصيدته أنشودة المطر : عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر حيث شبه السياب العيون بغابتي نخيل رغم أن شجر النخيل جاف ولا وجود لوجه الشبه الا أن الصورة ايحائية انزياحية جاءت في هذا السياق على أسلوب مختلف بعد أن أضاف عليها دلالة السحر( دلالة فنية) وهى لحظة اقتراب رحيل الظلام وقدوم الصباح المشرق بالحرية على العراق .. والحديث عن ظاهرة الغموض في اعتمادها على الرمز والأسطورة وتوظيفها للإنزياح كلغة أسلوبية داخل لغة يحتاج الأمر الى الحديث بتوسع عن المدارس المعاصرة الغربية وخاصة الأسلوبية التي تعتمد لغة التناص ..