بقلم نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة، باحثة و ناقدة. – الجزائر ذات مساء ممطر قرب مدخل النفق المظلم كانت تقف الشابة بلباسها الأبيض و هي مبلّلة من رأسها لأغمص قدميها. مرّت سيارة تاكسي بالقرب منها فأشارتْ إلى صاحبها أن يتوقّف، فتوقّف و فتح النافذة و سألها: -إلى أين يا ابنتي؟ -إلى وسط المدينة. – تفضلي، و فتح لها الباب الخلفي. -شكرا لك. أثناء الطريق أخذ العجوز صاحب التاكسي يتفحصها من خلال مرآة السيارة، فانتبه لكونها مبلّلة و الجوّ بارد و هي لا ترتجف.. ثمّ الوقت متأخر و الظلام يُخيّم على المدينة، و هي كانت في مكان شبه مهجور!! ترى ماذا كانت تفعل هناك لوحدها و وسائل النقل تكاد تكون منعدمة لوعورة الطريق بانحرافاته الكثيرة،إضافة لكونه مكان مخيف بقصص الأشباح.. التفت إليها و سألها : -ماذا كنت تفعلين في ذلك المكان يا صغيرتي؟ لم تُجبه و لم تنظر إليه حتى ،و كأنه يُكلّم غيرها. كانت سابحة في مكان بعيد بنظرتها الشاردة و هي تراقب المطر من زجاج نافذة السيارة. شعر السائق بقشعريرة تصيبه رهبة و خوفا منها دون سابق إنذار. دخلا المدينة و كان الوقت متأخر و الساعة تقترب من منتصف الليل، و فجأة طلبت منه أن يتوقّف عند مدخل عمارة. -انتظرني هنا،سأعود لك بالمال… و خرجت دون أن تلتفت إليه. انتظرها لما يُقارب الساعة و لم تعد، فخاف و غضب في نفس الوقت و قرر البحث عنها حيث دخلتْ، لكن في أيّ شقّة دخلتْ؟ و في أيّ طابق؟ دخل العمارة ذات الطوابق الأربعة ،فأحسّ بقلق و رهبة ،السكون يعمّها.. الصمت.. أخذ يصعد طابقا طابقا و يُنصت علّه يسمع صوتًا، و أخيرا شاهد بصيص نور يخرج من شقّة فطرق الباب طرقًا خفيفًا. فتح الباب رجل مسنّ،فسأله: -هل دخلت عندك فتاة شابة قبل قليل؟ -لا يا ولدي.. أفزعتني و أيقظتني من النوم. -أعتذر منك..غريب، لأني رأيت نورا من أسفل الباب فظننتها هنا. -يا ولدي لا يوجد غيري في البيت،ادخل و سأقدم لك كوب ماء. دخل صاحب التاكسي و هو يتفحّص المكان، و فجأة اقشعرّ بدنه و هو يرى صورة الفتاة التي كانت معه في لوحة معلقة!! -يا الله!! هذه من أبحث عنها! قالها محدثا نفسه و سأل العجوز: -من تكون هذه الشابة؟ -هي ابنتي المتوفاة منذ خمسة عشرة سنة. -كانت معي في السيارة قبل قليل ،وجدتها عند مدخل النفق في اعلى مكان من المدينة قُرب الجرف المميت،و هي من طلبت مني إيصالها!! غير ممكن!!لا أصدق!! -هي ميتة يا ولدي، سأقصّ عليك كيف ماتتْ.. انتحرت من أعلى ذلك الجرف حيث وجدتها.. كانت وحيدتي سعيدة قبلها بأيام و هي تُحضر نفسها ليوم زفافها من ابن الجيران ،أحبا بعضهما منذ كانا طفلين،خطبها و قبلنا ، و قبل يومين من الزفاف،كان جالسا مع رفيقه الأقرب في سكة قطار يدردشان كالعادة ، و عندما اقترب القطار ابتعد صديقه و ساعده للوقوف،لكن رجله علقت هناك و لم يمهلهما القطار بسرعته فقتله. صُعق الصديق و هو يراه كيف مات ففقد عقله و مات بعده بيوم واحد.. عندما وصلنا الخبر من الجيران ،جُنّ جنون ابنتنا و أخذت تصرخ و تلطم غير مصدّقة. ذهبت لبيتهم فوجدت العزاء لطمت و مزقت ثيابها و أخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى تلة من ذلك الجرف و رمتْ نفسها منتحرة. و من يومها و شبحها يحوم حول ذلك المكان لتعود للبيت،و كأنها نادمة لسبب مازلنا لا نعرفه، و لست الوحيد يا ولدي الذي رآها و أوصلها إلى هنا.. أغمي على سائق التاكسي،و استيقظ بعد ساعات في بيت العجوز و هو يرتجف بسبب الحمى.. و منذ ذلك اليوم ترك السيارة و لم يقربها مجددا