صلاح الدين الأيوبي ليس صحابيا، وليس من المبشرين بالجنة، وليس تابعيا، وليس عربيا، ويحق لكل منا أن يكون له رأي فيه، سلبا أو إيجابا، مثله مثل أي زعيم عربي أو قائد عسكري، له ما له وعليه ما عليه. وقد استوقفتني كثيرا شخصية صلاح الدين الأيوبي، فقد كنت أراه قائدا عسكريا عظيما منحنا زهوا كنا ومازلنا نباهي به الدنيا كلها، لكنني أيضا كنت أراه ديكتاتورا فظا لا يؤمن بالتعدد ولا يرى الحق إلا فيما يعتنقه هو، وقد وصل حد بطشه أنه ذبح من المصريين الآلاف غير مفرق بين محبة المصريين لآل البيت، وبين التشيع كمذهب عقيدي سياسي، بل امتد بطشه ليصل إلى المتصوفين والشعراء، فكانت مقتلة السهروردي خير شاهد على جور الحكم وديكتاتورية الحكام، لم يكن السهروردي يعمل بالسياسة، ولم يكن من الذين رفعوا سيفا في وجه الأيوبي، ولا كان صاحب دعوة بالخروج عليه، لكن صلاح الدين الأيوبي كما قال "ابن الجوزي" إن كان مبغضا لكتب الفلسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة. فهل تكفي البغضاء سببا يقتل به الناس، وقد قال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. هذه الشخصية التاريخية المربكة، أربكتني من جهة فنية، وعندما كتبت قصيدتي "ملاحقة" ونشرتها في مجلة "الشعر" منذ قرابة ربع القرن، كانت لها ردود أفعال غاية في التشدد، فكثير من النقاد والشعراء تعاملوا معها على اعتبار أنها قصيدة ظالمة لشخصية ناصعة البياض، وكان أكثر هؤلاء الذين رفضوا رؤيتي الفنية لشخصية صلاح الدين الأيوبي، الصديقان الكبيران، الشاعر محمد عفيفي مطر والناقد الدكتور علي عشري زايد. اتهمني عفيفي مطر بأني أروج لما يقوله الشيعة، في وقت نحن أحوج ما يكون فيه إلى الالتفاف حول الرموز الإسلامية الناصعة التي تملك – وحدها – القوة الحقيقة لدحر المحتل الإسرائيلي، أما الناقد الدكتور على عشري فلم يكتف بالمناقشات الكثيرة التي دارت بيننا حول هذه القصيدة، وإنما توقف أمامها نقديا في معرض دراسته العلمية الرصينة عن ديواني "الرجل بالغليون في مشهده الأخير"، ومما قاله عن هذه القصيدة: (وهذا الاعتزاز بالموروث والاستدعاء له ليس حلية شكلية خارجية يزين بها السماح بناء قصيدته، وإنما هو إرادة جوهرية أصلية من الأدوات التي يشكل بها رؤيته الشعرية ويخضعها لمنطلق هذه الرؤية بحيث تصبح لبنة أساسية في بناء قصيدته، وهو لا يستخدم العناصر التي يسترفدها التراث على الصورة التي وردت بها في التراث ضرورة، بل إنه كثيرا ما يتحاور معها ويتمرد عليها ويستولدها دلالات مناقضة لدلالاتها التراثية؛ ففي ثانية قصائد المجموعة "ملاحقة" يوظف الشاعر ثلاثة عناصر تراثية هي: شخصية صلاح الدين الأيوبي، وشخصية السهروردي المقتول، الفيلسوف الإشراقي الذي اتهم بالزندقة وقتل بقلعة حلب، ثم تلك العبارة الشهيرة التي قالها هارون الرشيد عندما رأى سحابة محملة بالمطر تتجاوز عاصمة ملكه دون بأن تمطر، فقال لها: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك . والشاعر يوظف كل هذه العناصر لا ليعبر عن الدلالات القريبة التي ارتبط بها في التراث من سعة رقعة الدولة الإسلامية حتى إن أية سحابة تمطر في أية بقعة من الأرض فسوف يرد خراجها إلى بيت مال المسلمين، ومن مثل ارتباط اسم صلاح الدين بالعزة الإسلامية والنصر والفتوح – لم يوظف الشاعر هذه العناصر التي استدعاها بتلك الدلالات التي ارتبطت بها في التراث، وإنما وظف كل هذه المعطيات ليعبر من خلالها عن ملاحقة الحكام للمخالفين، وتنكيلهم بهم، وهذه الدلالة تطالعنا من عنوان القصيدة "ملاحقة" الذي يمثل إشارة إلى الاتجاه الدلالي للقصيدة . وعلى الرغم من أننا نرى أن الشاعر لم يحالفه التوفيق في اختيار العناصر التراثية التي وظفها، لأن الشاعر في عملية التوظيف ينطلق من الدلالة التراثية للعنصر الموظف سواء تبنى هذه الدلالة أم رفضها، ولكنه في حالتي الرفض والقبول مطالب بتشكيل العناصر المستدعاة في بناء فني مقنع للمتلقي، وهذا ما لم يفعله الشاعر فليس صلاح الدين الأيوبي بأنسب الشخصيات التراثية للتعبير عن الحاكم الطاغية، ولا السهروردي بأنسبها للتعبير عن صاحب الرأي المخالف المضطهد، كما لم يلجأ الشاعر إلى تبرير توظيفه لهذين المعطيين على النحو الذي وظفها عليه بلجوئه إلى أسلوب مثل أسلوب المفارقة مثلا الذي يتيح للشاعر استخدام العنصر الموظف في دلالته العكسية . أقول: على الرغم من هذا كله فإن صنيع الشاعر يدل على أن علاقته بموروثه ليست علاقة الخضوع والتلاشي، وإنما هي علاقة الحوار والتجاوز والمشاكسة، وكل هذه علاقات مطلوبة تدل على حيوية هذا التراث وعلى إيجابية الشاعر معاً، شريطة أن تتم ممارسة هذه العلاقات في إطار اعتزاز الشاعر بالتراث، وحرصه عليه، وهذا ما يتوافر في مغامرة السماح عبد الله).