يعود ميلاد التجربة الحزبية بمصر إلى مطلع القرن العشرين، عندما تمخضّت الحركة الوطنية المصرية، في مواجهة الإحتلال البريطاني عن مولد الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل باشا. إلا أن الميلاد الحقيقي لها، جاء بعد قيام ثورة 1919 والتي أفرزت قيادة ثورية ، تبلورت تنظيمياً فيما بعد ، عبر ظهور حزب الوفد بزعامة سعد زغلول باشا، المُعبر عن القوى الثورية، التي حملت لواء تحقيق مطالب الثورة، وإلى جواره جاءت أحزاب أخرى وصفت بأنها أحزاب "الأقلية". وعرفت الحياة السياسية المصرية ثقافة الإنتخابات، وتداول السلطة، بالرغم من تدخلات القصر، والإحتلال، التي أفسدت التجربة وأفرغتها من مضمونها.أن البعض يظن عندما يري المراهقة السياسية عند النخبة والهبل الإعلامي في الفضائيات أن الأحوال في مصر تسودها الفوضى, ولكن إذا ما قارنا الأوضاع الراهنة مع الأوضاع اللاحقة لثورات أخري كثيرة نكون متفائلين ولدينا حالة من الثقة, أما ظهور حالة من القلق والتوتر هي مسألة طبيعية تحدث في أساسيات البناء السياسي الجديد, وما يحدث الآن فرز للشخصيات وللأحزاب والتي منها سوف يختفي لعدم وجود إيديولوجية وقضايا لها جمهورها عند الناس, والاختيار السياسي هو الذي سوف يفرز ويكون البقاء للأصلح. وقائمة السياسيين من أصحاب البيزنس، الذين أسسوا أحزاباً أو يترأسونها، ويمتلكون في الوقت نفسه قنوات تليفزيونية، تشمل الدكتور السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، فهو نفسه مالك مجموعة قنوات الحياة، التي أخذت على عاتقها إعداد إعلانات مصورة عن الحزب وأعضائه ومرشحيه ومواقفه من الحياة السياسية بشكل عام، كذلك لا تخلو برامجها من الاستعانة بأعضائه، واستضافتهم، والمهندس نجيب ساويرس، مؤسس حزب المصريين الأحرار، ومالك شبكة ON TV، والمهندس أكمل قرطام، رئيس حزب المحافظين، المساهم فى عدد من القنوات الفضائية، ومالك جريدة وموقع التحرير، والمهندس محمد أبوالعينين، أحد أقطاب الحزب الوطنى المنحل، المسيطر على سماء الإعلام بمجموعة قنوات صدى البلد وموقعها الإلكترونى، وهى قنوات لا تخلو من الإعلان عن كافة تحركاته، والمهندس أحمد أبوهشيمة أحد المساهمين فى مجموعة قنوات النهار، وموقع اليوم السابع، والدكتور عماد جاد، أحد المساهمين فى مجموعة قنوات TEN، وهو قيادى بحزب المصريين الأحرار، ورئيس اللجنة التنسيقية لقائمة «فى حب مصر»، وسعيد حساسين، أحد مؤسسى قناة العاصمة، والمرشح بقوة لانتخابات مجلس النواب. بخلاف أصحاب المال الذين أسسوا أحزاباً صغيرة وأعضاء فى تيار الاستقلال، وذلك سيتسبب فى أكبر مفسدة للحياة السياسية، وستشهد الانتخابات البرلمانية المقبلة مهازل لا حصر لها، فهؤلاء ستكون لديهم منابر إعلامية للترويج لأنفسهم، والتقليل من شأن خصومهم، ، كذلك أصبح أقصر الطرق لدى رجال الأعمال لحماية استثماراتهم، هو الاتجاه لإنشاء حزب سياسي وتأسيس قناة فضائية». أن هؤلاء سيطروا على الأحزاب ووضعوا أيديهم على الإعلام ومن ثم أصبحوا يملكون خاصية التأثير في الرأي العام ودعم مرشحين بأعينهم باستضافتهم في قنواتهم الفضائية، وفى المقابل فإن المستقلين أو الأحزاب الصغيرة صوتهم غير مسموع، الأمر الذي يخالف الدستور جملة وتفصيلاً، لكن يبدو أن المشهد يتكرر من جديد، فقواعد اللعبة السياسية أصبح يسيطر عليها عدد من رجال الأعمال الحزبيين. وفي عام 1976 جاءت التجربة الحزبية الثانية بقرار سلطوي فوقي، عبر إنشاء المنابر السياسية، التي تحولت لاحقاً إلى أحزاب سياسية. وجاءت التجربة الثانية ليس بهدف ترسيخ مبدأ التعددية، أو التعبير عن توازنات سياسية، فضلاً عن تداول السلطة الذي لم يحدث على الإطلاق، بقدر ما جاءت بهدف إضفاء قدر من "الديكور الديمقراطي"، والتعددية الشكلية على النظام الحاكم، خاصة مع توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" وقدوم المعونة الأمريكية، التي كانت لها شروط محددة، فكان الهدف هو خلق كيانات هامشية تحيط بالحزب الواحد. وبعدها جاءت تلك اللجنة العجيبة المسماة ب"لجنة الأحزاب السياسية"، التي ترأّسها رئيس مجلس الشورى، الذي يحمل صفة قيادية في الحزب الحاكم، و تمتعت تلك اللجنة بسلطة مطلقة في منح أو منع الشرعية عن أي مشروع لحزب سياسي. باختصار كانت التجربة الحزبية بعد عودتها الثانية تجربة مريضة تعاني من خلل بنيوي، وعيوب هيكلية، فكانت أحزاب المعارضة المعروفة – وهي تعد على أصابع اليد الواحدة- ممنوعة من ممارسة العمل السياسي خارج مقارها الحزبية، فضلاً عن معانتها من تكلُّس في قيادتها، ومن غياب الديمقراطية الداخلية، فاقتصر نشاطها على إصدار صحف تعبر عنها، فكان الأمر أشبه بصحف لها أحزاب، وليس أحزاباً لها صحف. وبالحضور الطاغي للظهيريْن الديني والمالي غابت البرامج والأفكار، فلم تحقق الأحزاب التي اكتفت بطرح برامجها نتائج ذات بال، بسبب عزوفها عن استخدام دور العبادة في الدعاية الانتخابية، إلى جانب محدودية قدراتها المالية، وعدم خلطها للعمل السياسي بالعمل الاجتماعي. أن رأس المال هو من يحكم فعلياً؟ بالطبع لا، لكنّ له دورًا في صناعة القرار السياسي بشكل كبير، بما يمتلكونه من تأثير، فرجال الأعمال يسيطرون على الصحف والقنوات الفضائية ومعظم الأحزاب السياسية. ومن يتحدث عن أنهم غير مؤثرين في صناعة القرار مخطئ، وعندما تتأزم الدنيا معهم ينحازون إلى مصالحهم، ويحاولون ان يتوافقوا مع السلطة ويجدوا طريقًا وسطًا. كما حملت النتائج مفارقة كبيرة تمثلت في تراجع الحضور السياسي للقوى اليسارية، بالرغم من أن السنوات التي سبقت الثورة شهدت زيادة معدلات الفقر، وارتفاع وتيرة الاحتجاجات العمالية، وهو مناخ مثالي لانتشار الأفكار اليسارية، إلا أن الخطاب اليساري ظل خطاباً نخبوياً حبيس الصالونات المغلقة، يصعب على البسطاء في الشارع فهمه والتفاعل معه، ولم يسع للانتشار والعمل في الشارع، إلى جانب ضعف القدرات المالية للأحزاب اليسارية. وجاءت المفارقة الثانية في مجيء التيار السلفي كثاني أكبر قوة سياسية ، وفق نتائج الانتخابات البرلمانية، بالرغم من حداثة عهده بالعمل السياسي، وبالرغم من موقفه المقاطع للسياسة برُمّتها قبل الثورة، إذ كانت غالبية ذلك التيار تحرِّم العملية السياسية بالكلية، من الأحزاب، إلى الانتخابات، إلى دخول البرلمان، وكان موقفها يقف على أرضية العقيدة "الولاء والبراء"، وليس على أرضية الشريعة "المصالح والمفاسد". وحزب المصريين الأحرار الحائز على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان (65 مقعدا) أسسه ويموله رجل الأعمال نجيب سويرس، فيما حزب «مستقبل الوطن» الذي حل ثانيا (50 مقعدا) يموله قطب صناعة الحديد أحمد أبو هشيمه. تراجع دور بعض الأحزاب الأخرى لنقص خبرات قياداتها في التواصل مع الشارع، والأمر الآخر ضعف الموارد المادية. أن الأموال التي تحصل عليها الأحزاب،من الدولة سوف تمنع سيطرة المال عليها من خلال رجال الأعمال الذين ينفذون مصالحهم الخاصة، وبالتالي فإن الدعم سيمكن من محاربة المال السياسي الذي لعب دورًا كبيرًا في إفساد الحياة السياسية. الحياة الحزبية الصحية من أهم سمات التطور الديمقراطي للمجتمع، ويحتاج انطلاقها إلى تضافر الجهود بين مختلف القوى السياسية، وستتكفّل الممارسة العملية، بفرز الغث من السمين من كل هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية، لإنضاج التجربة الحزبية الجديدة، ليكون لدينا تعددية حقيقية، تتنافس فيها عدة أحزاب قوية، تمتلك المقومات الفكرية، والقدرات التنظيمية، والإمكانات المالية، وتتمتع بالديمقراطية الداخلية البعيدة عن الشخصنة والفردية، وتمثل قواعد جماهيرية حقيقية، فلا تكن مجرد صالونات نخبوية، فالتعددية الحزبية الناضجة شرط أساسي لانطلاق التجربة الديمقراطية.