إن غزو ثنائية الظاهر والباطن للعلاقات الإنسانية يؤدى إلى محن ومصائر كارثية، وهى قضية شغلت الفكر الإنساني، وأصبحت منهلاً لإبداعات تحذيرية عديدة. تجلت إحدى محن هذه الثنائية فى علاقة ثلاثية، ضمت الطبيب "أنطون" الذى قتل صديق عمره الأديب "أليكسي" أمام زوجته "تتيانا" فى إحدى جلساتهم. ونظرًا إلى غياب معرفة الدافع والقصد، سكن تقرير تشخيص اللجنة العلمية المختصة أن الجريمة اشتباه بوجود خلل فى القوى العقلية للطبيب "أنطون"، الذى رفض ما جاء فى التقرير، وأرسل إلى اللجنة ثمانى رسائل متتالية ردًا بتفسيرات خطية اعترافية، بدأت رسالته الأولى باعترافه بأنه أخفى الحقيقة، لكنه سيكشف عنها، وراح يسرد علاقته الطويلة بصديق عمره "أليكسي" منذ الدراسة الثانوية، وامتدادها إلى ما بعد تخرجهما فى الجامعة، مؤكدًا أنه لم يكن لديه يومًا أصدقاء أقرب إليه من "أليكسي"، لكنه لم يكن فى عداد الناس الذين يشجعونه على احترامهم، معللا ذلك بأنه يعود إلى ما فى طبيعة "أليكسي" من ليونة، وامتثال، وتقلبه الغريب فى مجال الفكر والشعور، وتطرفه الحاد، وضعف الحجة فى أحكامه المتغيرة دائمًا. ترى هل سبب امتداد صداقتهما كان يعنى لدى "أنطون" ركيزة لتزكية ذاته المتضخمة؟ يبرر "أنطون" استمرار علاقتهما، وغفرانه لعيوبه الضئيلة بأنه كان عاجزًا أن تكون عيوبه ضخمة، تمامًا كعجزه عن كل ما هو كبير، مستشهدًا بمؤلفات " أليكسي" الأدبية التى يراها جميلة وتافهة، تمامًا كما كان مؤلفها جميلاً وتافهًا. يعترف "أنطون" أنه قبل عامين من زواج "أليكسي" و "تتيانا"، عرض عليها الزواج فرفضت وراحت تضحك طويلاً، ويبدو أن رفضها قد أسس لدى "أنطون" معنى ودلالة نالا من تمركزه الشديد حول ذاته المتضخمة، خاصة أن "أليكسي" قد عرف وقتها برفضها له، وقد طرح "أنطون" فى اعترافاته ما يكشف تضخم ذاته لحظة مواجهة رفضها، متجليًا فى فقدانه تماسكه الجسدى بقوله: "أنا الإنسان القوى الذى لم أبك أبدًا، ولم أخش شيئًا وقفت أمامها أرتجف، كنت أرتجف وأنا أراها تضحك". واضح أن " أنطون" لم يقبل أن منطق المشاعر خارج أى قيود؛ إذ منطقها فى حريتها الداخلية، فى حين أن "أنطون" ينزع إلى التملك إشباعًا لأنانيته، بينما الحب ينزع أنانية الإنسان ويرغمه على نسيان نفسه. إن أنانية "أنطون" المغلقة دفعته إلى الانتقام من "تتيانا" بمحاولة خلخلة حياتها، فحدد صيغة انتقامه وأدواتها، ولأنه كان واثقًا تمامًا من أن "تتيانا" بزواجها من "أليكسي"، ستتلقى هجمة تعسة مكثفة تلازم حياتها؛ لذا مارس- سرًا وبإصرار- تسلطه ليدفعه إلى زواجها، ونجح فى مسعاه، لكن خاب ظنه، إذ فشلت رؤيته الاستباقية؛ بل هزم فى كل مخفيات حيله لإفساد علاقتهما؛ إذ كانت "تتيانا" لا تحب غير "أليكسي" ولا تعيش إلا به وله. أدرك "أنطون" أنه أهدى المرأة التى رفضته الرجل الذى أحبته، فقرر أن يقتل صديق عمره ليحرمها منه، لتنفلت منها السعادة، وتنسى الابتسام وضحكتها الداوية، وتتراءى لها التعاسة أشباحًا عصية على الطرد، تطفر لترافقها فى كل درب، وراح يدعى التأسى على صديقه عندما يستشعر سكرات الموت، لكنه قرر أن رهان موت "أليكسي" أنه كاتب لا موهبة له، فحسم بذلك مصير صديق عمره؛ بل اشترط ضرورة حضور "تتيانا" لتراه وهو يقتله. لا شك أن هذه المواجهة العنيدة تنتج إحساسًا ملتبسًا بمزيج المتعة بالألم، وذلك ما يرتبط بالإبداعات الدرامية. تراه أراد أن يمكنها من رؤية ما لا تراه فى الواقع؟ أم أن المشهد محض اعتراف بحبه لها؟ كما اشترط أيضًا ألا يمسه أى عقاب قانوني، مدعيًا أن العقاب سيمنح "تتيانا" مسوغًا آخر لتضحك منه. توصل "أنطون" إلى فكرة تحقق له اشتراطاته؛ إذ سوف يدعى "تمثيلاً" أنه أصيب بالجنون، ويقتل "أليكسي" زاعمًا أنه كان فى حالة من فقدان الوعي، ثم ينعم بعد ذلك بالشفاء، فمارس جهدًا لتتخذ خطته شكلاً متقنًا. وقد نجح مرتين على مدى شهرين، خلال حضوره حفل عشاء لدى عائلتين، أن يصطنع تمثيلاً استحضر لدى الحضور خوفًا أفقدهم تماسكهم، فأدرك "أنطون" أن حياة "أليكسي" قد وضعت تحت يده. وفى إحدى جلساتهم الثلاثية تبدت جميع امتلاءات "أنطون" وسائر تضافراته تتحاين لتصير ثلاث ضربات على رأس "أليكسي" بقطعة ثقيلة من الحديد التى تستخدم لتثبيت الأوراق، وأطلقت "تتيانا" صرخات رعب، لكن "أليكسي" كان قد مات. عندما ذهبت الشرطة لاعتقاله كانت الجملة التى مازالت فى ذاكرته، وسجلها فى رسالته: "أنطون" يظن أنه يتصنع الجنون، ولكنه مجنون". إذا كان صحيحًا أن مصير الرغبة أن تمضى إلى حدها الأقصي، فهل صحيح أنها تصل إلى غايتها؟ إن "أنطون" فى رسالته السابعة التى يصف فيها كيفية إتمامه القتل وهو ما كان يتطلع إليه، نراه يعترف "أنه خلف أثرًا من نار، ليس هناك خوف سخيف؛ بل هناك رعب الإنسان الذى فقد كل شيء، هناك الوعى البارد بالسقوط، بالهلاك، بالخداع، بالاستعصاء". ترى هل يعنى "أنطون" أن فاعل الشر أصبح من ضحاياه؟ لا شك أن تلك حيلة لتحقيق شرطه الثانى بألا يمسه أى عقاب، وذلك بأن يعفى نفسه من مسئولياته والشروع فى عقابه؛ إذ رسائله إلى اللجنة الطبية انطلقت من انقسام أعضائها إلى نصفين، أحدهما أقر بجنونه والآخر اعترض رافضا قرار جنونه، ورهان "أنطون" أن يمارس الوسائل كافة لخلخلة النصف الذى يقر بجنونه. وفى رسالته الثامنة يخاطب اللجنة العلمية معلنًا التحدي: "أنتم ستمضون تثبتون أننى مجنون، وأنا سأثبت لكم أننى سليم، ستمضون تثبتون أننى سليم، وأنا سأثبت لكم أننى مجنون. ستقولون لا تسرق، ولا تقتل ولا تغش، لأن ذلك لا أخلاقى وجريمة، وسأثبت لكم أنه يجوز القتل والنهب، وأن ذلك أخلاقى جدًا، وسوف تفكرون وتتكلمون، وأنا سوف أفكر وأتكلم، وكلنا سنكون على حق، وما من أحد منا سيكون على حق، فأين الحقيقة؟". سكن الشر وجهه، وأصر أن يربح، بممارسة طرد الحقيقة. عندما مثل "أنطون" أمام المحكمة، أخبره القاضى بأنه استدعى أربعة خبراء فى الطب النفسي، وانقسمت أصواتهم بالتساوي، ثم سأله هل لديك ما تقوله كى تبرئ نفسك؟ أجاب المتهم: لا شيء. إذ هو اعترف فى رسائله إلى اللجنة بأنه ليس نادمًا على قتل صديق عمره "أليكسي". إن الكاتب الروسى ليونيد أندرييف (1871 – 1919)، فى روايته "فكرة"، طرح قضية أن أكبر مآزق الإنسان تتبدى فى طغيان مفهومه لذاته، الذى لا مقياس له ولا واقع سوى أنانيته، وتخطيه حقيقة استحقاق الآخرين، بمعنى أن يزول الآخر مقابل "الأنا"، حيث لا يعتصم إلا بذاته، دون اقتداره على تعقل ذاته والآخرين. قدم الكاتب بذلك نموذجًا لشخصية بلا يقينات سوى ذاتها، تمارس الوهم والكذب، وتنتحل أدوارًا زائفة لخداع ذاتها وغيرها، فتصاب العلاقات الإنسانية بالهشاشة، فيختفى عندئذ معنى المجتمع.