من ذا الّذي يتجرّأ على ادّعاء الإيمان بالله وهو لم يذرف بعد دمعة حبّ واحدة شوقاً إليه، أو لم تذب نفسه هياماً بمحيّاه الإلهيّة؟ ومن ذا الّذي يذوق نور الرّبّ ويقبل أن يستدفئ بنور أقلّ وهجاً من ضياء وجهه القدّوس؟ " كما يشتاق الإيل إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله." ( مز 1:42) يسافر الأيل مسافات طويلة ظمآناً إلى مجاري المياه ليرتوي بعد عطش دام طويلاً. وأمّا المؤمن فيتخطّى شوقه الارتواء، ليظلّ في حالة ظمإٍ دائم إلى الرّبّ. يلقاه ويرتوي من محبّته لكنّه لا يشبع، ولا يريح هذا الارتواء قلبه حتّى يعود ويتشوّق إلى لقائه الدّائم. العبادة حبّ يزرع الألم في النّفس حتّى تزهر حياة في قلب الله، وشوق متمرّد على كلّ المشاعر الزّائفة الّتي لا ترفع من قيمة الإنسان، بل تطرحه خائباً مرتاباً عند حدود هذا العالم. إنّها الارتقاء إلى فوق، إلى ما هو أبعد من الواجبات الدّينيّة، وأعمق من التمتمات الهشّة. العبادة اشتياق إلى الإله الحيّ، الحاضر في النّفس والأقرب إليها منها، ورجاء عظيم بالحبّ الإلهيّ المنقطع النّظير، وبهاء حزن يعتري النّفس حدّ الفرح والسّرور. " لماذا تكتئبين يا نفسي؟ لماذا تئنّين في داخلي؟ إرتجي الله لأنّي سأحمده بعد، مخلّصي هو وإلهي." ( مز 6:42). لا يمكن أن نحبّ من لا نراه، ومن غير المستطاع بناء علاقة مع وهم أو سراب. الحبّ علاقة عميقة بين طرفين، يغدق فيها الواحد على الآخر محبّة لا متناهية وغير مشروطة. ولمّا كنّا قد آمنّا وأحببنا من أحبّنا أوّلاً، رأينا سناه البهيّ، وتبيّنّا تجليّاته، واختلينا به كلّ حين حتّى ننعم بحبّه الممتدّ منذ الأزل والمترامي إلى الأبد. " في النّهار يضيء الرّب رحمته، وفي اللّيل أنشد وأصلّي للإله الحي." ( 9:42)